شهدت المملكة الأردنية الهاشمية منذ استقلالها العديد من الأحداث الدستورية التي ساهمت في ترسيخ مبادئ الديمقراطية وسيادة القانون، حيث تمثلت أولى هذه التطورات في إصدار دستور الاستقلال لعام 1946، الذي وإن كان أكثر تقدميا من القانون الأساسي لإمارة شرق الأردن لعام 1928، إلا أنه لم يُكرس عناصر النظام النيابي البرلماني الكامل. فبقي الوزراء مسؤولون أمام الملك وليس أمام مجلس النواب، وذلك بصريح المادة (28) من دستور عام 1946 التي كانت تنص بالقول «رئيس الوزراء مع الوزراء مسؤولون تجاه الملك مسؤولية مشتركة عن السياسة العامة للدولة كما أن كل وزير مسؤول تجاه الملك عن دائرته أو دوائره».
وبعد صدور قرار الارتباط مع الضفة الغربية، وفي ضوء خطبة العرش التي ألقاها المغفور له الملك عبد الله الأول ابن الحسين في افتتاح مجلس الأمة في عام 1951، جرى تشكيل لجنة خاصة لوضع مسودة مشروع دستور جديد يكرّس كافة أركان الديمقراطية النيابية، فتم إقرار دستور جديد للبلاد في عهد المغفور له الملك طلال في عام 1952، والذي نقل المسؤولية الوزارية بشقيها الجماعية والفردية إلى مجلس النواب المنتخب.
ومنذ ذلك التاريخ، وبعد استلام المغفور له الملك الحسين بن طلال رحمه الله سلطاته الدستورية، فقد خضع الدستور الأردني إلى سلسلة من التعديلات التي ساهمت في إرساء مبادئ الحكم الرشيد، وتعزيز مبدأ سيادة الأمة. فجاء جزء من هذه التغييرات لتتوافق مع الأحداث التاريخية في تلك الفترة، وذلك فيما يخص الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين العربية، وكيفية التعامل مع تشكيلة مجلس النواب التي كانت تضم ممثلين عن الضفة الغربية، بالإضافة إلى تقرير الحق للملك بتأجيل الانتخاب تأجيلا عاما إذا كانت هناك ظروف قاهرة يرى معها مجلس الوزراء أن إجراء الانتخابات أمر متعذر. كما جرى تعديل الدستور ليتوافق مع فكرة الاتحاد العربي الذي تشكل لفترة وجيزة، وبعد انتهائه أعيدت النصوص الدستورية إلى وضعها السابق.
مراجعة نصوص الدستور وبعد استلام جلالة الملك عبد الله الثاني ابن الحسين سلطاته الدستورية في عام 1999، استمرت مسيرة الإصلاح الدستوري على قدم وساق، فخضع الدستور الأردني لمراجعات شاملة أهمها التعديلات الدستورية لعامي 2011 و2022. ففي ضوء هبوب رياح الربيع العربي، واستشعاراً من الدولة الأردني بأهمية التغيير، صدرت الإرادة الملكية السامية بتشكيل لجنة ملكية لمراجعة نصوص الدستور برئاسة المرحوم أحمد اللوزي، والذي حدد جلالة الملك محاور عملها لتشمل «ترسيخ التوازن بين السلطات، والارتقاء بالأداء السياسي الحزبي والنيابي وصولا إلى صيغة دستورية تمكن مجلس الأمة من القيام بدوره التشريعي والرقابي بكفاءة واستقلالية، بالإضافة إلى تكريس القضاء حكما مستقلا بين مختلف السلطات والهيئات والأطراف».
وقد أثمرت هذه المراجعة الشاملة لنصوص الدستور عن إدخال تحسينات على بنوده وأحكامه ساهمت بشكل كبير في إعادة التوازن المفقود بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، وذلك من خلال الحد من مظاهر تغول السلطة التنفيذية على مجلس النواب. فجرى مراجعة أحكام حل مجلس النواب من خلال تقرير استقالة الحكومة خلال أسبوع من تاريخ الحل، والتقييد على صلاحية مجلس الوزراء في إصدار القوانين المؤقتة لصالح إعادة الاعتبار للقوانين العادية التي يصدرها مجلس الأمة.
كما أدخلت التعديلات الدستورية لعام 2011 تغييرات إيجابية على آلية انتخاب مجلس النواب من خلال إنشاء الهيئة المستقلة للانتخاب لتصبح صاحبة الولاية العامة في إجراء الانتخابات النيابية والبلدية، وإنشاء المحكمة الدستورية لتصبح سياجا قضائيا حصينا للحقوق والحريات الدستورية من خلال الرقابة على احترام القوانين والأنظمة لأحكام الدستور. كما شملت التعديلات الدستورية لعام 2011 تغييرات في طريقة محاكمة الوزراء في الأردن، حيث أسند الاختصاص في ملاحقتهم عن الجرائم الناتجة عن تأدية وظائفهم إلى المحاكم النظامية المختصة في العاصمة بدلا عن المجلس العالي لتفسير الدستور.
الأوراق النقاشية وقد واكب جلالة الملك عبد الله الثاني هذه المسيرة الإصلاحية بأن خط مجموعة من الأوراق النقاشية التي رسم من خلالها خارطة طريق سياسية ودستورية تقوم على أساس التمكين القانوني واعتماد الدولة المدنية أساسا للحكم. فجاءت الأفكار التي قدمها جلالة الملك لتسهم في إيجاد خطة عمل واضحة المعالم يمكن من خلالها الوصول إلى الهدف الأسمى من الإصلاح السياسي والدستوري في الأردن والمتمثل بتشكيل الحكومات البرلمانية، والانتقال من العمل النيابي الفردي إلى العمل المؤسسي القائم على أساس البرامج والأفكار.
اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية ويستمر جلالة الملك في دفع مسيرة الإصلاح الدستوري، حيث صدرت الإرادة الملكية السامية في عام 2021 بتشكيل لجنة ملكية لتحديث المنظومة السياسية، والتي حدد جلالته اختصاصها ومهام عملها لتشمل إجراء تعديلات دستورية تهدف إلى تحسين آليات العمل النيابي، وتعزيز مشاركة الشباب والمرأة في الحياة السياسية، بالإضافة إلى إصدار قانونين جديدين للأحزاب السياسية والانتخاب يسهمان في الانتقال إلى مرحلة يكون فيها مجلس النواب مشكلا من ممثلين عن الكتل والائتلافات الحزبية والبرامجية.
وبالفعل، فقد قامت اللجنة الملكية بتقديم توصياتها إلى جلالة الملك الذي أعلن أنه الضامن لتلك المخرجات، وجرى إرسالها إلى مجلس الأمة صاحب الولاية العامة في التشريع وفق أحكام الدستور. فجاء إقرار حزمة جديدة من التعديلات الدستورية التي أرست أساسا تشريعيا متينا للحكومات البرلمانية من خلال رسم العلاقة بين الملك كرأس الدولة ورئيس السلطة التنفيذية من جهة ورئيس الوزراء الذي سيُنتخب من الشعب من جهة أخرى. كما تقرر حرمان النواب من العضوية في مجلس الوزراء من أجل تعزيز مبدأ الفصل بين السلطات، ونقل مسؤولية النظر في تأسيس الأحزاب السياسية ومتابعة شؤونها إلى الهيئة المستقلة للانتخاب ضمانا لاستقلاليتها عن الحزب الحاكم في المستقبل. وجرى أيضا التشدد في المصالح المالية والشخصية لأعضاء مجلسي الأعيان والنواب أثناء فترة عضويتهم في السلطة التشريعية، بهدف تعزيز النزاهة والشفافية في العمل العام.
وعلى صعيد تمكين المرأة والشباب، فقد تمت إضافة نصوص دستورية جديدة تلزم الدولة بتمكينهما ودعمهما للقيام بدور فاعل في بناء المجتمع بما يضمن تكافؤ الفرص على أساس العدل والإنصاف. وقد اتسع نطاق الحماية الدستورية في تعديلات عام 2022 لتشمل الأشخاص ذوي الإعاقة، فتقرر وجوب حماية القانون لحقوقهم، وتعزيز مشاركتهم واندماجهم في كافة مناحي الحياة المختلفة.
وعلى صعيد إدارة شؤون الدولة في الظروف غير الاعتيادية، فقد تقرر إنشاء مجلس الأمن القومي الذي يتألف من ممثلين عن مجلس الوزراء والقادة العسكرية والأمنية وعضوين يعينهما جلالة الملك بهدف متابعة الشؤون العليا المتعلقة بالأمن والدفاع والسياسة الخارجية. ليكون هذا المجلس مكملا للولاية العامة لمجلس الوزراء في متابعة كافة المسائل الداخلية والخارجية للدولة وفق أحكام المادة (45/1) من الدستور.
تعزيز نطاق الحقوق والحريات الأساسية وعليه، فإن ما شهده النظام الدستوري الأردني من تطورات إيجابية منذ الاستقلال كانت كفيلة بأن تضعه في مرتبة متقدمة عن باقي الدساتير المقارنة، وبالأخص تلك التي صدرت بعد «الربيع العربي» والتي لم تصمد كثيراً، فخضعت للتعديلات والتغييرات المتلاحقة على نصوصها وأحكامها. هذا على خلاف الحال بالنسبة للدستور الأردني، الذي ساهمت الرؤى الملكية السامية في الحفاظ على إرثه التاريخي وعَبَق الماضي مع تدعيمه بنصوص دستورية حديثة ساهمت في تعزيز نطاق الحقوق والحريات الأساسية، مع التأكيد على علو المصلحة العليا للدولة باعتبارها تسمو على المصالح الفردية.
وقد ظهرت الموازنة الحقيقية بين حقوق الأفراد على الدولة وواجباتهم في التعديلات الدستورية لعام 2022، حيث جرى تضمين الدستور الأردني مبادئ أساسية عليا تتمثل بتعزيز قيم المواطنة والتسامح وسيادة القانون. فأصبحت هذه القواعد أحكاما دستورية مكتوبة يمكن التمسك بها من قبل كل ذي مصلحة في الدفاع عن حقوقه أمام الجهات الإدارية والقضائية.
واليوم، ومع المئوية الثانية للدولة الأردنية، فإننا نفخر بالإنجازات والإصلاحات الدستورية التي واكبت مسيرة الاستقلال. فتجلت حكمة القيادة الهاشمية في حماية العقد الاجتماعي، الذي هو أساس إصدار الدساتير الأردنية بعد الاستقلال، والذي قوامه البيعة التاريخية للهاشمين منذ عهد المغفور له الشريف الحسين بن علي. وقد نجح ملوك الأردن منذ ذلك الوقت في الحفاظ على هذه البيعة وضمان استمراريتها، وكانت القيادة تنتقل بينهم إلى أن وصلت جلالة الملك عبد الله الثاني الذي يعمل بكد ونشاط ليحافظ عليها، ويحمي إرث أجداده في قيادة الدولة الأردنية إلى بر الأمان في محيط من الصعاب والتحديات. فما أحوجنا اليوم، ونحن نحتفل بذكرى الاستقلال، أن نستذكر تضحيات القادة والأردنيين في رحلتهم نحو الإصلاح الدستوري، وأن نستلهم منهم الهمم والعزائم في صيانة هذا التطور والبناء عليه. فالتحديات المعاصرة أكثر إيلاما من سابقاتها، وتضامن القيادة مع الشعب بحاجة إلى إدامتها وتعزيزها، وذلك لكي نمضي قدما في الحفاظ على إرث الاستقلال والبناء عليه في نهضة دستورية وسياسية ستنعكس بالضرورة على الحياة الاقتصادية والاجتماعية بشكل يرضى عنها الأردنيون، وتجسد أفكار القيادة الهاشمية التي عملت بجد لتحقيق ما نتمتع به اليوم من نهضة دستورية حقيقية، سيستمر العمل على تطويرها وتحديثها حتى نصل إلى أقصى الطموحات والأحلام في تكريس حكم الشعب وانتقال السلطة إليه، وذلك من خلال الحكومات البرلمانية التي تعمل في جو من الحرية والديمقراطية وسيادة القانون.