علامات استفهام كبيرة نضعها على مصداقية الإعلام هذه الأيام. وبالإعلام نقصد معظم وسائل الإعلام، الرسمية وغير الرسمية، بما في ذلك كبريات الوسائل العالمية.
هنالك مُفارقتان لا بد من الإشارة إليهما أولاً.
الأولى وتتعلق بخصخصة الإعلام. في الماضي كان الناس يُشكِّكون في الإعلام العام، على أنه يُمثل وجهة نظر الدول والحكومات، ويقولون عندما تتم خصخصته سيكون أكثر استقلالية وموضوعية ومصداقية.
على أرض الواقع، وبعد أن تمت الخصخصة وجُرّبت، ثبت العكس؛ فالإعلام الخاص مملوك ومُوجّه، وبعضه إشكالي وسطحي، يستخف بعقول الناس.
أما المفارقة الثانية فتتعلق بكثرة وسائل الإعلام. في زمن مضى كانت وسائل الإعلام محدودة، وكان بعضهم يجادل إنه إذا ما كثُرت فستكون فرص الوصول إلى الحقيقة أكثر بكثير، وستكون معارفنا أغنى وأشمل.
مع الأسف ما حدث هو العكس، فكثرة وسائل الإعلام أوقعتنا في حيص بيص، إذ يختلط فيها الحابل بالنابل بسبب كثرة الروايات وتناقضها أحياناً؛ وتضيع الحقيقة، فنتحسّر أحياناً على محدودية وسائل الإعلام التي كانت الروايات فيها أكثر مهنية والحقائق أكثر وضوحاً.
والمحزن، لا بل المزعج، أكثر من هاتين المفارقتين المُرّتين أن نكتشف مؤخراً أنّ معظم الإعلام في عالم اليوم لم يعد هدفه البحث عن الحقيقة ونقلها للناس، فالحقيقة آخر همّة. ما يهم العديد من وسائل الإعلام التأثير في مواقف الناس لصالح وجهات نظر معينة وبأي ثمن كان.
وحقيقة يبدو أن ما يُشغل معظم وسائل الإعلام اليوم، الرسمية والاجتماعية على حدّ سواء، هو رواج الفكرة أو القصة أو الخبر بغض النظر عن محتواها، فمقياس نجاحها مرهون بعدد من يتابعونها ويشاركونها ويُعلّقون عليها، وليس بالضرورة بأهميتها أو مصداقيتها أو نقلها للحقيقة.
وهذه انتكاسة ما بعدها انتكاسة في تاريخ المعرفة الإنسانية.
نعي تماماً أن الإعلام منذ نشأته قبل قرون خلت لم يكن له المصداقية التامة، لكن نسبياً كانت المصداقية أفضل وأعلى.
ونؤكد هنا أن ليس كل وسائل الإعلام غير موثوقة، فبعضها ما زال يتمسك بالحقيقة ويتمتع بالمصداقية؛ وهذا ما نريد. لكن البحث عن مثل هذه الوسائل بين الآلاف المؤلفة من الوسائل غير الموثوقة في العالم هو كالبحث عن إبرة في كومة قش.
والواقع أن العديد من وسائل الإعلام عندنا، بعكس العديد من وسائل الإعلام العالمية، ما زالت متمسكة بالحقيقة وتأخذ المصداقية والمهنية على محمل الجد. وهذا أمر يَسرُّنا.
والمطلوب، لسلم البشرية وتقدمها وازدهارها، غلبة وسائل الإعلام ذات المصداقية، والمنتمية للحقيقة، على غيرها من الوسائل التي نرجو أن تكون طارئة أو هامشية، حتى يرقى الإعلام لما كان يُطلق عليه في زمن ما: «السلطة الرابعة».
وإلى أن يتم ذلك على المرء أن يتوخى أقصى درجات الحيطة والحذر في تلقّيه ما تنقله وسائل الإعلام اليوم، وعلينا أن نُحذّر الناس من الإعلام الذي لا يتوخى الحقيقة والمصداقية ونُدرّب أبناءنا وبناتنا على التعامل معه بفاعلية.
وهذه مهمة تربوية واجتماعية بامتياز.