إنّ قراءة الأوراق الأولى من الصحافة العربیة، تظهر أن شهر رمضان المبارك، حاز على مساحةٍ مهمةٍ فيها. ما يشير إلى أنها ومنذ مهد نشأتها، أولت هذا الشهر الفضيل، مساحةً بین أوراقها، على قلة الأوراق للأعداد الصادرة، والتي لم تكن تتجاوز في مطلع القرن الماضي الأربع صفحات لكثیر من الصحف.
ومن بين ما كُتب عن الشهر الفضيل، نقرأ في رحاب صحیفة «القبلة» في عددها الصادر في 2 رمضان 1336هجري، الموافق لعام 1918م، وعلى صفحتها الثالثة، قصیدة تهنئة للشریف الحسین بن علي - طیب الله ثراه - یقول فیها صاحبها عبدالمحسن الصحاف: شهر الصیام بدا وأنت هلاله وبك إزدهى بین الوجود جمالها طمحت له الأبصار فخراً مدبرات نوراً خباه الله جل جلالها رفعوا الأكف لدیه لما شاهدوا وجهاً بهي النور لاح كمالها وتباشروا بجماله مطلع حسنه والكل قد هامت بأمالها أنت الحسین لك المشاعر رحبت فرحاً بعدد جاء تهیف فاله وعلى صفحتها الأولى هنأت «القبلة» بالشهر الفضیل مستعرضة فوائد الصیام الصحیة والأدبیة وشارحةً حركة جیوش الثورة العربیة الكبرى ومجاهدیها، مما یبدي للقارئ المساحة الكبیرة التي أولتها الصحیفة للشهر الفضیل.
ونعود في تأملنا للصحافة العربیة إلى نشأتها، خصوصاً في أواخر العهد العثماني حیث الصحافة ما زالت في بواكیر عهدها، لنقرأ في صحیفة «الاتحاد العثماني» والصادرة بتاریخ 26 أیلول 1908 م الموافق 1 رمضان 1926هـ، خبر إعلان الشهر الفضیل الذي جاء فیه: «في نحو الساعة الرابعة من لیلة أمس ثبت لدى الحاكم الشرعي رؤیة هلال رمضان المبارك بشهادة أحمد أفندي أبو خلیل رضوان، الذي رآه بعد الغروب بنحو عشر دقائق من مكان مرتفع في محلة الرمل وعلیه نظم الإعلام الشرعي وأرسل إلى ملاذ الولایة ومنه إلى قومندان الموقع، فأطلقت المدافع من الموقع العسكري إعلاماً وتبشیراً وأعتبرت غرة رمضان المبارك الیوم (السبت) برؤیة هلاله، هنأ الله الأمة باقباله وبارك لها به، ومن علیها بقبول الصیام والقیام بمنه وإحسانه ونستعرض في نفس الصحیفة الخبر في العام الذي يليه، وهناك اختلاف بسیط، وجاء فيه: «في نحو الساعة السابعة ونصف من اللیلة الماضیة أثبت وكیل الحاكم الشرعي في بیروت رؤیة هلال رمضان المبارك وذلك بحضور أصحاب الفضیلة المفتي والنقیب، وغیرهم من أولي العلم وأرسل الاعلام إلى الموقع العسكري فأطلقت المدافع إعلاماً وإجلالاً وأنیرت منائر المساجد الشریفة فهنئ بإقباله العالم الإسلامي بأسره أعاده الله تعالى بالیمن والسعادة».
كما أسست الصحافة المصرية، حضوراً نوعیاً لرمضان في أوراقها باكراً، ذلك أن افتتاحیاتها بحثت في العمق في معاني رمضان، فالمتأمل لصحیفة المؤید وأعدادها - مثلاً - یرى أنها وضعت القارئ في رحاب الشهر الفضیل فقد أفردت مواضیع للصیام وعلاقة علم الفلك بالقرآن، وغیرها، ومما نشرت في أعداها لرمضان عام 1911م، حلقات لحاج مصري یروي فیها تفاصیل سفره إلى المدینة المنورة بعنوان «من مصر إلى المدینة المنورة»، والتي جاء فیها: «رست السفینة على مدینة یافا وهي الثغر الأول من الثغور العثمانیة فنزلنا بها الساعة 12 تماماً ظهراً بعد ألأن أجریت عملیة التطهیر الصحي على الركاب فصلینا صلاة الظهر بالمسجد الكبیر، وركبنا قطار السكة الحدیدیة العثمانیة إلى مدینة القدس الشریف الساعة 1 و40 دقيقة بعد الظهر، فسار بنا القطار بین الجبال المرتفعة تارة والأرض السهلة تارة فشاهدنا في الطریق مقامات الأنبیاء الكرام سیدنا هود وذو الكفل وسارة صلوات الله علیهم، ثم مر القطار على محطات (اللد) و(الرملة) و(سجد) و (دیر أبان) ثم وصلنا القدس الساعة الثالثة وخمس دقائق.
وخلال هذا السرد یروي الحاج المصري، ما رآه من مزروعات كالعنب والبرتقال والتین الشوكي واللیمون، ووصف لبیت المقدس في حلقة ثانیة بقوله: «مسجد أو جملة من والزیتون والذرة والقمح وغیرها، مواصلاً المساجد مجموعة في فناء واحد محاط بسور كبیر وله عشرة أبواب، بالجهة الغربیة سبعة أبواب على صف واحد وبالجهة الشمالیة ثلاثة أبواب كذلك، أما الأول فهو باب المغاربة وباب الكنیسة وهو المعروف بباب السلسة، وباب الموضأ، وباب القطانین، وباب الحدید، وباب البصیرى، وباب الغوانمة، أما الثاني فهو باب شرف الأنبیاء، وهو الذي دخل منه سیدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وباب حطه وهو الباب الذي یتحتم على الزائر الدخول منه، حیث قوله تعالى: «وأدخلوا الباب سجداً وقولوا حطة نغفر لكم خطایاكم»، وداخل هذا الباب یكون مستقبل القبلة مقابل باب الصخرة الشریفة وباب الأسباط وهو المعروف بباب الرحمة، وبالجهة الشرقیة بابان متلاصقان أحدهما باب التوبة والأخر باب الرحمة؛ ویواصل الشرح إلى أن یختم حلقةً ثانیة، عن زیارته للقدس الشریف، بقوله: «ومكتوب على باب الصخرة الشریفة قوله صلى الله علیه وسلم: من أراد أن ینظر إلى بقعة من بقع الجنة فلینظر إلى بیت المقدس»، وواصفاً مسجد الصخرة بأنه جمیل الصنع من الشكل بدیع النظام جمیل الزخارف، ذاكراً وجود لوح من الرخام فیه صورة لهدهدين یُسر من ینظر لهما، فسبحان الخلاق العظيم. هذه الاطلالة، وهذه المقتطفات، تروي جانبا من ملامح التأسيس لأجواء الاحتفاء بالشهر الفضيل، وما زالت باقية في صحافتنا.