ثقافة وفنون

مؤنس الرزاز.. حاضر في الوجدان رغم الغياب

يعد الأديب مؤنس الرزاز أحد أبرز أعلام القصة والرواية والثقافة الأردنية المعاصرة، انطلق بقوة في عالم الكتابة والإبداع الثقافي في منتصف الثمانينات، وامتاز بالجرأة والحيوية وغزارة الإنتاج، فقد وصل مجموع أعماله الروائية إلى أكثر من 15 عملا روائيا عدا القصص القصيرة، والدراسات الأكاديمية، والمقالات التي زينت صفحات «$» لسنوات عديدة.

ولمؤنس الرزاز، الذي تمر اليوم الثلاثاء ذكرى رحيله العشرين، تجربة ثرية، انعكست في كتابته التي استقطبت كثيرا من الدارسين والنقّاد، كما استقطبت انتباه القرّاء من مختلف الفئات العمرية، فرغم عشرين عاما على رحيله، ما يزال مؤنس حاضرا في الوجدان، ويمثل قدوة إبداعية للكثيرين.

ولد مؤنس الرزاز في مدينة السلط، وترعرع في العاصمة الأردنية عمّان. والده منيف الرزاز، وهو طبيب من أبرز القادة الأوائل لحزب البعث العربي الاشتراكي، ووالدته لمعة بسيسو من رائدات العمل الاجتماعي والسياسي.

درس الرزاز الفلسفة في جامعتي بيروت العربية وبغداد، وتابع دراسته العليا في جامعة جورج تاون (واشنطن). ثم أقام في بيروت بين عامي 1978 و1982، حيث عمل في مجلة «شؤون فلسطينية»، ونشر عدداً من القصص في صحيفتي «السفير» و'النهار» وعايش الحرب الأهلية اللبنانية. ومن بيروت عاد إلى عمّان، وعمل في مجلة «الأفق» فالمكتبة العامة لأمانة العاصمة الأردنية، فكاتباً لعمود يومي في «الـدسـتور»، ثم كاتبا لعمود يومي في «$». وإلى ذلك عمل مـستـشاراً لوزارة الثقافة منذ عام 1993 وانتُخب أميناً عاماً للحزب العربي الديمقراطي الأردني، وانتُخب عـام 1994رئيساً لرابطة الكتّاب الأردنيين. شغل منصب رئيس تحرير مجلة «أفكار» الثقافية الصادرة عن وزارة الثقافة الأردنية حتى وفاته. وجمعت «الرأي» كتاباته اليومية فيها في كتاب بعنوان «الحاضر الغائب». بينما صنفت روايته «اعترافات كاتم صوت»، وفق اتحاد الكتاب العرب في عام 2000، ضمن أفضل مائة رواية في القرن العشرين.

يُعد مؤنس الرزاز من أبرز كتّاب الرواية العربية الحداثية. وقد كان مع تيسير سبول وغالب هلسا من روادها في الأردن. وحظيت رواياته بعناية نقدية كبيرة، منها ما كتبه محسن جاسم الموسوي وإلياس خوري وشكري عزيز الماضي وفيصل دراج.

منذ روايته الأولى، بدا التجريب علامة فارقة في تجربة الرزاز الروائية، وخاصة في اشتباك سيرة الكاتب بسيرة كتابة الرواية، أو في اشتباك السيرة الذاتية بالميتارواية (ما وراء الرواية). وعبر ذلك، وفي سائر رواياته، دأب الرزاز على استثمار التراث السردي العربي ولاسيما «ألف ليلة وليلة»، والتجربة الصوفية، مما وفّر لروايته تكسير الأزمنة ودمجها، ولكن دوماً باتجاه الواقع العربي، وبرؤية نقدية صارمة للمؤسسات والعلاقات السياسية والاجتماعية والثقافية، وفي تلاقح ثري مع المفاصل الكبرى في الرواية العالمية. فالرواية لدى الرزاز هي هتك للوحش في الإنسان والحضارة والتاريخ، وتعرية للذات وللآخر، مما يتركز في زمن كتابة الرواية، ولا يوفر زمناً، فتبدو الرواية تمور وتتفجر، وكاتبها واحد من شخصياتها، والقارئ أيضاً، فضلاً عن المكان (بيروت، عمّان، الصحراء).

ومنذ روايته الأولى، بدا مؤنس الرزاز ذلك الكاتب الذي ينزف روحه، لكأنما يسابق الموت فيما يكتب، منذراً بالكارثة التي يقرأ عناصرها في الواقع وفي الحلم، وهو ما تنتهي إليه بخاصة روايتاه «متاهة الأعراب» و'الذاكرة المستباحة» ومن مناجزة المسرح في بناء الرواية، كما في رواية «فاصلة في آخر السطر»، إلى انثيال الكتابة دفقة واحدة، كما في رواية «مذكرات ديناصور»، إلى الحضور القوي لتجربة والده السياسية، كما في روايتيه «اعترافات كاتم صوت» و«الشظايا والفسيفساء»، إلى الحضور الأقوى للاشعور والفصام والتقمص في أغلب رواياته. من كل ذلك كان لتجربة مؤنس الرزاز تميزها وامتيازها، كما كان له بها، وبتجربته الثقافية، تميزه وامتيازه، إبداعياً وإنسانياً.

سجل الأديب الراحل جانبا حيويا من تطور مدينة عمان الحديث في عدد من رواياته فانتقل من الإطار القومي الواسع في أعماله الأولى إلى أعمال تكاد تنحصر في مدينة عمان، وفيها تسجيل عميق لعمان التسعينيات ووجوه حيويتها وتطورها الحديث، وانتهى إلى روايات كتابية جوانية ونفسية ومنها سيرته الجوانية، فهذه الرحلة من الاتساع إلى الضيق ومن العام إلى الخاص ومن العالم إلى النفس هي رحلة مؤنس التي عبر عنها أدبه بصدق وانفعال مؤثر، وبتقنيات أدبية عالية.

ما أنجزه مؤنس من إبداع يعكس بصورة مختلفة شكلا ومضمونا، جزءا من وجهة نظره، ورؤيته الإنسانية، وسخريته الجارحة القريبة من الكوميديا السوداء التي عبّر عنها في كتاباته الروائية، كلها في مجملها تعطي هيكلا آخر لكتابات روائية أخرى، تصب في خانة قدرته المميزة كروائي محترف، يمتلك القدرة على التنويع في منجزه الإبداعي.

توفي مؤنس الرزاز مخلفاً ثلاث مجموعات من القصص القصيرة هي: «مدّ اللسان الصغير في وجه العالم الكبير» (1975)، و«البحر من ورائكم»، و«النمرود» (1980). كما خلف اثنتي عشرة رواية هي: «أحياء في البحر الميت» (1982)، و«اعترافات كاتم صوت» (1986)، و'متاهة الأعراب في ناطحات السراب» (1986)، و«جمعة القفاري.. يوميات نكرة» (1990)، و«الذاكرة المستباحة» و«قبعتان ورأس واحد» (1991)، و«مذكرات ديناصور» (1991)، و«الشظايا والفسيفساء» (1994)، و«فاصلة في آخر الـسطر» (1995)، و«سلطان النوم وزرقاء اليمامة» (1996)، و«عـصابة الورد الدامية» (1997)، و«حين تستيقظ الأحلام» (1997)، و«ليلة عسل» (2000). وعن الإنجليزية ترجم الرزاز من روائع الأدب العالمي: «قصص لمجموعة من الكتّاب» (1980)، ورواية «انتفاضة المشانق» للكاتب الألماني ترافِن B.Traven عام (1981)، التي ترجمها بالتعاون مع الكاتب الأردني إلياس فركوح، ورواية «حب عاملة نحل» (1985) للكاتبة الروسية ألكسندرا كولونتاي Kollontai. كما ترجم عن الإنجليزية: «من روائع الأدب العالمي: قصص لمجموعة من الكتّاب» (1980)، وشارك الروائي إلياس فركوح بترجمة رواية «انتفاضة المشانق» للألماني ترافِن (1981)، ورواية «حب عاملة نحل» (1985) للروسية ألكسندرا كولونتاي. وصدرت أعماله الكاملة عام 1993.