.. كنت أمشي أول أمس في الشارع، وقد وضعت في يدي ساعة تدل على حجم ما حرقت من السعرات، أحسست أني أستعيد رشاقتي.. وكنت مزهوا بالمشي لمدة (55) دقيقة دون انقطاع..
ما حدث أمامي جعلني أقف بجانب أحد أعمدة الكهرباء وأتجمد مثله تماما، ثم أنسى رشاقتي وقدرتي على التحمل.. وكل شيء، القصة باختصار أن سيارات تابعة لدائرة مكافحة المخدرات، حاصرت رجلا كان ربما يروج.. أو يحمل في سيارته كمية من المخدرات، أو ربما ينقل بعضا منها.. لا أعرف، ولكنهم قفزوا مثل النمور تماما.. دون كلمة، وحاصروا سيارته.. وفي ثوان معدودة.. سحبوه من داخلها ثم ألقوه على الأرض.. وضعوا (الأصفاد) في يده، وأحدهم قاد سيارة الرجل ثم انطلقوا..
كل ذلك لم يستغرق (30) ثانية.. وقد عرفت أنهم من المكافحة.. حين شاهدني أحدهم متسمرا بجانب العامود، وقال لي: (احنا مكافحة.. ما اتخاف)..
بصراحة أنا لم اشاهد رشاقة في حياتي مثل هذه، ولم أشاهد شبابا يشبهون إلى حد بعيد (النمور) في حركتها.. تذكرت وقتها (هوشات) مجلس النواب، التي تدل على الترهل.. وضعف الحركة، وقلة (الاكشن)..
لو كان في المنطقة كاميرا وإضاءة ومخرج، لكان المشهد أبلغ وأقوى من مشاهد (هوليوود).. فعلا ما رأيته لا يجعلك فقط تعجب بالرشاقة والدقة وحسن التنفيذ ولكنك تعجب بالتفاني الذي يمتلكونه، وبالاحترافية.. بالخطر الذي يقتحمونه دون خوف..
في جهاز مكافحة المخدرات، من يجوبون الميدان هم شباب في العشرينيات من أعمارهم.. وحين يخرجون في مهمة مثل تلك التي شاهدتها، لا يعرفون هل سيتلقون رصاصة أم لا.. وهل ستكون المداهمة خطرة؟ وهل ستكون الأقدار قاسية عليهم.. وهل سيعود كامل الفريق ومعه الصيد الثمين، أم أن أحدهم سيغادر للمشفى..
حين نتحدث عن المؤسسات في الدولة، فهذه هي المؤسسات الحقيقية.. وحين نتحدث عن الإنجاز، فهؤلاء هم الإنجاز الصادق وغير المزيف، وحين نتحدث عن كبار البلد، فهؤلاء هم الكبار.. الذين يمضون وقتهم بين تحقيق ومداهمة ومتابعة واعتقال.. ولا أظن أن واحدا منهم خرج يوما لمهمة دون أن يكون الرصاص في بيت النار..
الغريب أننا لا نعرف الأسماء، ووجوههم لا تعلق في الذهن.. وهم يعيشون مثلهم مثل غيرهم، ربما يتلقون مكافآت زهيدة.. وينتظرون الرواتب مثلنا في نهاية الشهر.. ويقفون على أبواب المؤسسة الاستهلاكية العسكرية، ولا يشكون سوء الحال أبدا.. بل يغلف الرضا مسارهم ومبدأهم ودروب حياتهم..
أنت تحب وطنك حقا، حين ترى مثل هؤلاء الفتية فيه.. وتنتمي إليه فعلا لأنهم يعطونك درسا في الفداء.. وتشعر بأن الأردن ليس بهذا الحجم من السواد، وليس بهذا الكم من الخراب.. الأردن فيه من يحترفون الخطر، ويواجهون الموت كل يوم لكي تبقى شوارعنا سالمة محصنة ولكي يبقى شبابنا في مأمن وفي سلام..
جهاز مكافحة المخدرات، يستحق أن يكون الجهاز المثل والقدوة.. لمؤسسات الدولة فقد أنتج من الشهداء العشرات، وقاتل في معركة ضروس.. وتحمل تبعاتها من جراح وإعاقات.. من شهادة، من معارك وحصار.. من مهمات يخرج فيها الفريق.. ولا يعرف كم سيفقد هذه المرة..
والمشكلة أن بعض من تقاعدوا من المناصب وقد أمضوا وقتهم في المكاتب الفارهة والسيارات الحكومية، حين يخرجون من الموقع يقولون لك: لقد خدمنا الوطن.. وتحتار من الذي خدم الآخر هو أم الوطن؟.. وما هو معنى جملة: (خدمنا الوطن).
شكرا للفتية الأشاوس في جهاز مكافحة المخدرات.. لقد أبهروني حقيقة، وحركوا دم الوفاء لهذا التراب في جسدي.. شكرا لهم.
Abdelhadi18@yahoo.com