لن نتطرق هنا إلى مقولة «إعطاء من لا يملك من لا يستحق» والتي عبرت عنها السياسة الاستعمارية البريطانية من خلال وعدها المشؤوم والذي أسس للمأساة الفلسطينية وعد بلفور لان الاستعمار بكل سماته كان وما زال ابشع تعبير عن الإنسانية وآليات تعامل الشعوب والفرز الطبقي بين الدول على قاعدة تقييمات عنصرية وشوفينية فلا ترى بالآخر الا قزما متخلفا يستوجب الوصاية والتوجيه لذلك سنبتعد عن كل تلك السردية التاريخية لوعد بلفور ونتقدم الى تجلي ذلك الوعد تحت يافطة المقولة الأخرى والأكثر انسجاما مع الواقع المعاصر وهي مقولة (ارض بلا شعب الى شعب بلا ارض) وذلك لان ما يحدث الان في فلسطين الحبيبة في الشيخ جراح وميسلون وباب المغاربة والمقبرة اليوسفية هي أدوات لاستكمال مشروع الاحلال السكاني والذي بدأ منذ بدايات هذا القرن من خلال الهجرات اليهودية الى فلسطين الحبيبة والتي ترجمت من خلال النكبة الفلسطينية في الـ 48 وصناعة دولة الاحتلال من اجل إحلال اليهود مكان الشعب الفلسطيني ونقصد هنا باليهود ليس شعبا انما ديانة أي البعد الطائفي في مكان البعد السكاني الأصلي المتجذر بالتاريخ للشعب الفلسطيني.
من هنا فان ما يحصل اليوم هو امتداد للايدلوجية الصهيونية والقائمة على بحث تاريخي عن موطء قدم لما يطلق عليه الشعب اليهودي.
وفي هذا اليوم تجاوزت الحركة الصهيونية كل معايير الشرعية الدولية بالذهاب الى إعطاء المحكمة الصهيونية ضوءاً اخضر لإخلاء المتضامنين في بيت جراح من اجل استكمال مشروع الاحلال بإخراج الفلسطينيين من هذا الحي الصامد والصابر ووضع قطعان المستوطنين في مكانهم.
هذه الممارسة لم ترتكز فقط على الشيخ جراح انما لكل الاحياء الفلسطينية التي تحيط بالقدس وتتكامل مع التوسع الاستيطاني في عموم الضفة الغربية وأيضا هي الممارسات التاريخية التي مارسها الكيان الفلسطيني ضد أبناء فلسطين التاريخية والتي ما زالت تمارس على فلسطينيي الخط الأخضر بأبشع صورها.
اذن الاحلال الديمغرافي بعده الطائفي هو التعبير الأكثر وضوحا عن سياسة التهويد والتي ستستكمل حلقاتها عند اخراج المقدسيين من أراضيهم وجعلهم اقلية عرقية وطائفية تحتويها دولة الاحتلال الصهيوني ضمن اطار هذا التوصيف ولكن كل ذلك وعلى مدار التاريخ اصطدم بمقاومة فلسطينية باسلة جعلت كل العالم يندهش امام اسطورة الحفاظ على الهوية الفلسطينية المستقلة والتي ترسخت في وجدان الشعوب العربية والإسلامية واخذت مفاعيلها المباشرة من خلال تدويل هذه الهوية على صعيد الدبلوماسية الدولية وتراكم الاعترافات بالهوية الفلسطينية من قبل الأغلبية الساحقة من الدول المنضوية في هيئة الأمم المتحدة والعالم.
لذلك فان الخوف على الهوية الفلسطينية غير مبرر انطلاقا من بسالة وصمود والوعد الإلهي للمرابطين بانهم الغالبون وذلك يستوجب أيضا تفاعلا مباشرا مع القضية الفلسطينية من خلال ترسيخ الهوية الفلسطينية التي هي الهدف الاستراتيجي والأكثر استهدافا في مخطط الكيان الصهيوني.
هنا لا بد ان نستذكر بشكل واضح وصريح الدور التاريخي الذي لعبه الأردن في دعم واسناد استقلالية القرار الوطني الفلسطيني وهويته وبنائه السيادي والمتكامل مع الوصاية الهاشمية على المقدسات الإسلامية والمسيحية والتي استهدفت بالأساس تجذير عروبة القدس بالاطار السيادي العروبي والانتماء الروحي للدين الإسلامي الحنيف وهو ما سحب البساط من تحت اقدام الحركة الصهيونية بان هذه الأرض تخلو من وجودها السيادي أي عدم وجود مرجعيات لهذه المقدسات..
هذا الدور لم يقتصر فقط على الأماكن المقدسة انما أيضا تجذر بدعم تاريخي دون قيود للشعب الفلسطيني بكليته واعتماد سياسة الاعتراف الدبلوماسي في الدولة الفلسطينية الناجزة..
هذا الدعم لا يمكن ان نتطرق لكل تفاصيله في هذه الورقة انما نستحضر في هذا اليوم الاتفاقية الفلسطينية الأردنية حول توسيع دائرة التبادل الاقتصادي والتجاري والسلعي وهو نتيجة طبيعية للقاء جلالة الملك والرئيس الفلسطيني والمصري في قمة القاهرة الأخيرة والتي انبثق عنها مفهوم الاحلال الاقتصادي في التعامل مع السلطة الفلسطينية من اجل ترسيخ هذه الهوية وتوسيع دائرة التبادل السلعي وهو ما يجعل السلع الأردنية تحل محل السلع الصهيونية في الأراضي الفلسطينية وهو جزء لا يتجزأ من مفهوم الحفاظ على الهوية الفلسطينية وترسيخها كدولة مستقلة ترجمة لحل الدولتين وهو ليس بجديد على حنكة القيادة الهاشمية في دعم مرتكزات بناء الدولة الفلسطينية كصمام امان للتحرر الشامل والكامل ارتكازا على كل اشكال المقاومة الشعبية الفلسطينية الباسلة التي قلبت كل الموازين والمعادلات بالتماهي مع الدبلوماسية الأردنية التي وظفت الشخصية التاريخية والإنسانية والدولية والاحترام الكبير لشخص جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين من اجل اسناد ودعم الشعب الفلسطيني على مدار العقدين الأخيرين من الصراع الذي احتدم بين الكيان الصهيوني والمقاومة الفلسطينية مستوعبا كل التخلي المتدرج عن هذه القضية من قبل الاشقاء والاعداء فبقي الأردن سندا استراتيجيا يرتكز عليه الشعب الفلسطيني ويثق بقدرته على لجم هذا الكيان والذي سيؤدي الى الخلاص الكلي من تلك المقولة التي مهدت للإحلال الديمغرافي وهو ارض بلا شعب الى شعب دون ارض فهيهات هيهات.