حاوره: كمال الرياحي - يمثل محمود طرشونة واحدا من أهم الوجوه الثقافية والجامعية في تونس التي تنتج باستمرار داخل الجامعة وخارجها غير أن وجه الناقد كان أكثر وضوحا للقارئ العربي نتيجة انقطاع الرجل عن الكتابة الابداعية لسنوات من ناحية ونتيجة لأن الكتاب التونسي لا يسافر دائما بينما تسافر الدراسات والمقالات دون عناء.
وقد عاد محمود طرشونة إلى الإبداع منذ بداية التسعينات ونشر إلى الآن ثلاث روايات مهمة اهتم بها النقاد مغربا ومشرقا وكانت متنا لبحوث جامعية عديدة في تونس وخارجها. في هذا الحوار، سنجعل من وجهه المبدع المتن ومن وجهه الناقد الهامش حتى نتعرّف على تجربة هذا الرجل الذي اطلّ علينا من نوافذه يوما ثم اختفى ليأكله البحث والنقد ثم يخرج للدنيا من جديد بدنياه ثم يعلن المعجزة وينصّب التمثال مكانه. فمتى بدأ محمود طرشونة الكتابة الابداعية ؟ لماذا عاد اليها متأخّرا؟ هل يمكن للناقد أن يكتب الابداع دون أن يتخلّص من سلطة الناقد التي تسكنه ؟ هل سيكون متسامحا مع نفسه ؟
في الحوار أجوبة عن هذه الأسئلة وعن أخرى.
الراي الأستاذ الدكتور محمود طرشونة نفـتـتـح هذا اللّقاء بسؤال عامّ، هل الكتابة عندكم هاجس أم متعة؟ هل هي حياة أم اِستراحة من تعب الحياة ؟
- هي كلّ هذا: هاجس لأنني بدأت حياتي الأدبية بكتابة القصّة القصيرة منذ الستينات - كما تعلم - قبل الإلتحاق بالجامعة، وسكنني هاجس الكتابة إلى اليوم لذلك أقول عندما يطلب مني أن أعرف نفسي بأنني كاتب. ولكن منذ السبعينات اِنشغلت عن الإبداع بالنقد والبحث والتدريس الجامعي، فأنجزت دكتوراة دولة وكتاب في الأدب المقارن وكتاب عن الأدب التونسي و«كتاب الأدب المريد في مؤلفات المسعدي» وترجمت رواية «صلاة الغائب» للطّاهر بن جلّون وحققت كتاب مائة ليلة وليلــة إلخ... وما عدت إلى الكتابة الإبداعية إلاّ في التسعينات برواية «دنيا» (1993 ) ثمّ «المعجزة» (1996) وأخيرا «التمثال» (1999). أمّا عن سؤالك عمّا إذا ما كانت الكتابة متعة، فطبعا هي متعة لا تضاهيها أية متعة، فعندما أفرغ من تحرير صفحة أكون راضيا عنها أشعر بلذّة لا يشعر بها إلاّ من تعوّد على الإبتكار ونحت الجمل وتوظيف اللّغة...
ولكن هذا لا يجعل الكتابة راحة، بل هي معاناة ذاتية حياتيّة، وخاصّة لغوية وأدبيّـة لا سيما بالنسبة إلى أستاذ جامعي، هي معاناة لأنّ المبدع العصامي الذي لم يتشبّع بنظريات الرواية والتيّارات النقديّـة والمعارف المنهجيّة والمصطلحات العلميّة والنقديـة لا يشعر بهذه المعاناة في الفصل بين الباحث والكاتب فالأمر بالنسبة إليه تلقائي ومريح أمّا الذي تعوّد بالبحث الجامعي والتدريس عندما يتحوّل إلى كاتب مبدع فعليه أن يقصي الجانب الأوّل من شخصيته حتى لا يكتب «أدب العلماء» وكما قلت في اِحدى الندوات إنّ أدب العلماء هو أردأ الآداب إذا لم يقم الكاتب بهذا المجهود للفصل بين الشخصيتين.
الراي وكنت قد اِستثنيت عمر الخيّام ؟
- بالطبع اٍستثنيت عمر الخيام لأنه عالم وفلكي ورياضي واعترف له التاريخ عبر مختلف عصوره بأنه شاعر حقيقي.
الراي جربّتَ القصّة القصيرة بإصدارك مـجموعة «نوافذ» ثمّ أقلعت عنها وأغوتك الرواية فكتبت الأولى والثانية حتى حسبنا أن موقفك منها - أي القصة القصيرة - كموقف بعض الكتّاب: مجرّد «عتبة للرواية ولكنّك تربك أفق اِنتظارنا بقصّة قصيرة بعنوان «رحلة السندباد الثامنة» قرأناها بمجلة «رحاب المعرفة» سنة 1998، هل هذا دليل وفاء وحنين إلى المعشوقة الأولى أم هي عودة اِستثنائية ؟
- نعم هي ملاحظة في محلّها إذا اِعتبرنا أنّ «رحلة السندباد الثامنة» هي قصة قصيرة، بالنسبة للتحوّل من القصة إلى الرواية أنا أعتبر القصة القصيرة بمثابة القصيدة الغنائيّة ( في شكلها وحجمها وموضوعها...) والشعر عادة يقترن بعهد الشباب والرواية تقترن بالكهولة لأنّها تختزل تجارب اِنسانية واجتماعيّة تضيق عنها القصة القصيرة وهو ما جعلني أكتب الرواية بداية من التسعينات أي في سنّ الخمسين. وكتبت رحلة السندباد بصفة اِستثنائية. كان من المفروض أن أذكر ظروف كتابتها في مجلة رحاب الـمعرفة فقد كُتبت بصفة جماعية تقريبا تلبية لنداء المركز الثقافي الدولي بالحمّامات الذي نظّم في بداية الثمانينات لقاء أدبيّا بين كتاب تونسيّين في الحمامات وكتاب فرنسيّين في «أفينيون» وضبط موضوعا مشتركا للكتاب العشرة وهو اِمتداد رحلة السندباد السابعة في ألف ليلة وليلة إلى رحلة ثامنة وكيف يتصورها كلّ واحد، ولقد كان ذلك في خمسة أيام، فأمضيتها في خمس لوحات أو مشاهد، ففي كلّ يوم يكتب كلّ واحد منّا مقطعا ثمّ يقع التبادل والترجمة، عبر الفاكس، فنطلع على تجارب بعضنا، ومن الغد نحرّر كلّ من مكانه اللّوحة الثانية وفي المساء نعيد نفس العملية إلى أن تمّت المحاولات العشرة في الأيّام الخمسة، وقد شارك من تونس سمير العيادي وعروسية النالوتي ومحمّد رضا الكافي الذي أقحم محاولته ضمن رواية «السلخ تحت الجلد»، وكان من المفروض حضور جمال الغيطاني من مصر لكن تعذّر ذلك وكان فرج شوشان منسّقا باعتباره مُدِيرا للمركز الثقافي. ولم تنشر هذه المحاولات إلاّ بصفة فرديّة خلافا لتجربة سابقة تتعلّق برحلة «ماركوبولو» بين تونس وكندا. هذا هو الإستثناء في القصّة القصيرة، ما عدا ذلك لم أفكّر في العودة لها للسبب الموضوعي الذي ذكرته آنفا.
الراي احتضنت رواية «التمثال» مستويات من اللّغة جمّة تراوحت بين الفصحى والوسطى والعاميّة - تطعيما - إلاّ أنّها لم تسقط في «فتوحات» الدارجة التي طفحت بها بعض النّصوص السرديّة العربيّة والتي نادى بها بعض المبدعين لغة للحوار. هل هذا التعامل المحترز مع الدارجة كما ورد في التمثال هو حقيقة موقف محمود طرشونة من اللّغة الروائيّة؟!
- هو موقف وقد عيب علىّ ذلك، عابه أحد النقاد الجامعيين واجبت بأنني عاجز عن كتابة الحوار بالدارجة لأنّ للدّارجة فنونها وأدبيتها وأنا لا امتلكها، وقد كتب صديقي يوسف القعيد رواية كاملة بالدارجة المصريّة وهذا اِختيار منه احترمه ولكني لا أتبنّاه. وأرى أن الكتابة بالدارجة المصريّة ليس مشكلة لأنّها معروفة بفضل المسلسلات والأفلام والأغاني، أمّا اللّهجات العربية العامية الأخرى بدون اِستثناء - بما في ذلك اللّهجة اللّبنانيّة والعراقيّة - فهي غير مفهومة.
الراي يحضر المكان في «التمثال» حضورا مكثفا فيستأثر بالبطولة ويستحوذ على مدى العين حتى أصبحت الرواية رواية المكان بلا منازع، هـل هو التمسّك بالأرض / الهويّة، هو الذي جعل منه سؤالا ملحّا أم هي فتوحات الرواية الجديدة التي توليه مكانة خاصّة؟!
- المكان في التمثال مثلته هضبة بيرصة التي اِسترجعناها مرتين مرّة من روما التي اِنتزعتها أثناء الحرب البونية الثالثة ومرّة من فرنسا التي سلبتنا إياها سنة 1881 مع عهد الحماية، ومنذ 1956 لم يعد ينازعنا فيها أحد. والتمسك بالمكان وشدّة التعلّق به هو الذي دفعني لتركيز جلّ الأحداث في قرطاج وهضبة بيرصة مع الإشارة إلى شارع فلسطين وأوتيك، بالإضافة إلى دافع فنيّ هو أن الرواية التقليدية لم تركّز على المكان كثيرا وكانت تعتبره اِطارا تقع فيه الأحداث ولم يكن ناطقا ولا رامزا، بينما في الرواية الحديثة، المكان صار له بعد رمزي ثابت يجعل التركيز عليه من ضرورات الصدق الفني، وهو في التمثال صنفان واقعي ومتخيل: واقعي معروف (هضبة بيرصة وآثار رومانية وبيزنطيّة وفرنسيّة ) ومتخيل: مكان الحلم، تحلم به الشخصيّة المحوريّة ونجده في باطنها كما نجده في باطن الأرض: الدياميس والأقبية وكما فهم كثير من النقاد فإنّ التمثال بحث في أعماق الهوية ألم تصرّح أمينة البوني أنّ: «المسألة مسألة هويّة»؟
الراي «التمثال» رواية تشارف على العجيب ولا تكونه. ولعلنا نذهب إلى تـصنيفها داخل التيار التعبيري الذي ينهض على انزلاق اللامعقول إلى المعقول وتوظيف الأسطورة واستلهام اللاّشعور وأحلام اليقظة والهذيان والكوابيس واسقاط العالم الداخلي للشخصية على العالم الخارجي. أين يصنّف محمود طرشونة الناقد روايته ؟!
- في الحقيقة ليس دوري أن اصنّف الرواية لكنني استحضر أن بعض النقاد صنّفوا «المعجزة» ضمن الأدب العجائبي والناقد عبد السلام المسدّي من هؤلاء النقاد. ولكن ما الاحظه أنّه في الظاهر يوجد في الروايتين بُعْـدٌ عجائبي: حمل مريم من روح عبد الستّار بعد موته في «المعجزة» وتحوّل المرمر إلى إنسان وتحوّل البشر إلى مرمر في «التمثال». وقد يقتصر بعض النقّاد على هذا المستوى ولكن عندما نقوم بحفريات في هاتين الروايتين وننتبه لبعض الجزئيات وأقوال الشخصيات نلاحظ أن الميّت ليس ميّتا والعاقر ليس عاقرا. فمريم تقول لخصومها أن زوجها لم يمت وأنّهم ظللوها عندما دلّوها على قبره.
الراي التقيناك قاصا وروائيا وناقدا وحمل عالمك السردي الكثير من الشاعريّة فهل نظمت يوما الشعر؟.
- لا لم أكتب شعرا طيلة حياتي لكن ما كتبته في رواياتي رأى فيه بعض النقاد ملامح من الشعر كالإيحاء والإيقاع والرمز. وقد وجدته - الشعر - عند غيري وخاصّة عن ابن طفيل في رسالته «حي ابن يقظان» التي قيل أنّها حكاية فلسفيّة. وقد كتبت فيها مقالا قلت فيه أنّها قصيدة صوفية. ورغم خلّوها من بيت واحد فقد طبّقت عليها مقولات الشعر الحديث. كما وجدت هذه الشاعرية عند محمود المسعدي الذي جمع بين النثر والنظم، فبعد البحث والدراسة قلت: المسعدي شاعر في نثره وناثر في نظمه. فما قدّمه على أنه نظم كان شعرا باردا بينما في الـبقيّة شاعرية كبرى.
الراي رواياتك تنفتح على الفنون الأخرى فيعترضنا في متونها الشعر والرسم والنحت والرقص والمسرح والملحمة... هل التهمت الرواية - حسب رأيك - بشموليتها بقيّة الفنون أم أنّها بريـئة و«لا تطالب برأس أحد» كما قال عبد الرحمان منيف ؟
- في الحقيقة، الرواية الحديثة منفتحة على كثير من الآفاق لأنّ في مقدورها أن تستوعب جملة من الفنون وتوظفها توظيفا فنيّا أراه مفيدا، بشرط أن لا يكون فيه تصنّع أو قصد، أي يجب أن يكون تلقائيا، ومن الطبيعي أن تجد فيها تمازج فنون متقاربة، وأحيانا متباعدة ذكرا أو ممارسة فورود كلمة موسيقي في رواية ما لا يعني وجودها فعليّا. إذ يجب أن تكون موسيقى حقيقية أورسما ونحتا حقيقين، لكنّه رسم أو نحت بالكلمات، وهذا أيضا درسته في أدب المسعدي في مقال «تكامل الفنون في السدّ» إذ بينت أنّها متكاملة متجانسة ومتناسقة ليس بينها نشاز لذلك اعتبر أدب المسعدي رحما تفرّعت عنه جملة من التيارات الحديثة في تونس كما تفرّعت التيّارات الواقعيّة عن البشير خريف ففي تونس قطبان، كلّ منهما تفرّعت عنه مجموعة من الإتجاهات الروائيّة هما: محمود المسعدي والبشير خريّف.
الراي إنّ بعض النصوص الأدبية التونسية جاءت نسخا مشوهة وممسوخة من أدب المسعدي خالية من ذوات أصحابها، إلاّ أنّ أعمالك - ورغم اِشتغالك الطويل على مؤلفاته - حملت خصوصية محمود طرشونة ولم تحمل وجه محمود المسعدي.
- أشكرك على هذه الملاحظة لأنّها ناتجة عن قراءة جدية لأدب المسعدي ولكتاباتي، لأنّ الصحفيين والنقاد عوّدوني بسؤال مناقض لهذا تماما، وأظنّه ناتجا عن قلّـة الإطّلاع عن الأدبين معا، بل هو ناتج عن فكرة مسبقة تعود إلى شدّة اِهتمامي بأدب المسعدي فأراني في كلّ مرّة مضطرّا للتوضيح والتذكير بأنّ المحاكاة لا تنتج إلاّ أدبا باهتا وصدى رديئا للغير وطمسا لشخصية المحاكي أو المقلّد، وقد قرأت بعض المحاولات في تقليد المسعدي ورأى أصحابها أن يعرضوها عليه هو شخصيّا فقرأها وقال لأحدهم: «كن أنت». لا فائدة في ذكر الأسماء فقد ذكرتها في مقالات أخرى، لذلك أقول دائما، نحن محمود طرشونة ومحمود المسعدي: نشترك في الإسم ونختلف في اللقب: كلانا محمود لكن لكلّ منّا طريقه، نشترك في بعض الأشياء ونختلف في أخرى فعندما يقع الاشتراك في الجودة فهذا أمر مقبول وإيجابي ولكن إذا ما قلدناه في كلّ شيء فإنّنا نطمس شخصيّتـنا ونجد نماذج لذلك، ولهذا أؤكّد دائما أنّ لكلّ شخصيّته وتجاربه وثقافته.
الراي لعلّ التوسّل بالتاريخ شكل من أشكال تأصيل الرواية في بعدها الـحضاري!
- نعم. هي الغاية لكن ليس من الضروري أن نؤصّل كل الروايات في بعدها الحضاري أو التاريخي لكن موضوع «التمثال» اقتضى ذلك، الجانب التاريخي فرض نفسه فرضا بكل تلقائية ولم ينتج عن اختيار مسبّق مثل اللغة مثلا.
الراي ظاهريّا انتهت أمينة البوني - بطلة التمثال - إلى الفشل والخذلان فهل تشرّع هذه النهاية لإستقالة المثقّف وانخراطه في منظومة الإستهلاك؟
- في الحقيقة لا يمكن أن نتحدّث عن فشل عند أمينة البوني لأنّ هذا الفشل هو فشل ظاهري. فالشخصية قد وضعت لنفسها أهدافا حققت بعضها ولم تحقق بعضها الآخر. ولعلّ اِلتحامهــا القوي في آخر الرواية دليل على تمسّكها بهوّيتها تمسّكا شديدا ونهائيا فهي رفضت العودة وحيدة إلى تونس وخيّرت أن تتمسك بتمثالها / هويتها حتّى تحولت إلى مرمر وهذا دليل على بطلان القراءة المتشائمة للرّواية.
الراي يقول جون بول سارتر «إنّ الخلق الفنّي لا يتم وجوده إلاّ بالقراءة. وعلى الفنان أن يكل إلى آخر مهمّة إتمام ما بدأ. إنّه لا يستطيع إدراك أهميّته إلاّ من ثنايا وعي القارئ. إذن كل عمل أدبي دعوة». هل بهذه الأهمية ينتظر محمود طرشونة القارئ في عصر فقدان القارئ؟.
- القرّاء مختلفون، متنوّعون، مستوياتهم الثقافية متفاوتة هناك من يكتفي بالحدث ويجد متعة في ملاحقة الأحداث فتكون هي كل ضالّته. وبالطبع ليس هذا القارئ الذي ينتظره الكاتب، بل القارئ المثقّف الذي لا يكتفي بهذا الجانب بل يبحث عمّا وراء الأحداث والشخصيات من رموز وابعاد. في تونس يوجد هذا النوع من القرّاء لكـنّـهم قلّة. ولعلّهم من خريجي الجامعات الذين يمتلكون معارف وطرائق القراءة باطلاعهم على المناهج الحديثة وهؤلاء هم الذين نتوّجه لهم في المقام الثاني. ونجدهم.
الراي أطرح عليك سؤالا في جزأين: لماذا اخترت إسناد دور الشخصيّة المحوريّة في رواياتك إلى المرأة؟ والمرأة في رواياتك تقدّم بشكل غير الذي تقدّم به في الرواية العربية عموما فهي مثقفة «تواقة إلى المجهول زاهدة في المعلوم» ولم يعد جسدها هو الذي يشرّع لوجودها في السرد. هل هذا واقع المرأة العربية حقا أم هو ما تتمنّى أن يكون؟
- في الحقيقة أنا لا أفكّر كثيرا في المرأة العربية عموما لأنني انطلق من واقعنا التونسي وأنت تعرف أن وضعية المرأة القانونية في تونس تختلف عنها في بقية الأقطار العربيّة والإسلاميّة: إنّه القطر الوحيد الذي تتمتع فيه المرأة بحقوق - منذ مطلع الاستقلال )56( مع مجلّة الأحوال الشخصية - ليست لأيّة امرأة في أي قطر عربي أو إسلامي آخر وهذا أمر ثابت لذلك فحضور المرأة في كتاباتنا مختلف وليست المسألة مسألة حلم بل هي واقع، وربّما هو حلم إذا نظرنا إلى الأقطار الأخرى، وشخصيّة «التمثال» باحثة آثار تتصف بالكثير من التحرّر وهذا ليس بدعة بل هو واقع.
الراي لعلّك لم تجبني لماذا الشخصية إمرأة ؟!!
- لـماذا ليست رجلاً؟! هذا الاختيار فرض نفسه فرضا وليس في ذلك سبب أيديولوجي نسوي كالانتصار لحساب المرأة على الرجل أو العكس أنا مؤمن بالمساواة التامّة ولا أرى فرقا بين أن تكون بطلة روايتي امرأة أو رجل وفي الحقــيقة هــذا أمر لم أفكّر فيه وربّما فاجأتني. ولكن في نهاية الأمر وراء كل الشخصيات كاتب وكل إناء بما فيه يرشح. ولعل الكاتب لا يستلهم حياة «مريم» أو حياة «أمينة» بقدر ما يستلهم حياته هو. وليس معنى هذا أن الكاتب دائما يسقط أفكاره هو، فبعض الشخصيات تكون مستـقلّة تمام الاستقلال. ولكن لا يسـلم أي كاتب من اسقاط مواجده ومواقفه ولو بصفة غير مباشرة. ولعلني أتـذّكر الآن قولة فلوبير الشهيرة «أنـــا مدام بوفاري» (ويضيف مازحا) رغم أنّها مدام Madam.
الراي «التمثال» رواية ترسّخ «ذهنيّة المؤامرة» وهذا الآخر «الجحيم» الذي يتربّص بهويتنا كل حين. هل يمكن اعتبارها نصّا رافضا للتطبيع؟!
- التطبيع مع إسرائيل ؟! طبعًا، الكاتب رافض تمام الرفض وخاصّة في هذه الأيام التي يضطهد فيه الشعب الفلسطيني اضطهادا لا مثيل له لا في آسيا ولا في افريقيا ولا في أميركا اللاّتينيّة. ولكن هناك رفض آخر لتقليعة جديدة هي العولـمة. ولا شكّ أنّك لاحظت أنّ الذي موّل تهريب التمثال من قرطاج إلى روما هو رجل أعمال أميركي. وأميركا تريد أن تفرض قانونها على جميع الشعوب وهو قانون القوّة والغطرسة. فقد وقعت عملية سطو على التمثال. وأميركا تستعمل عملاء من الشعوب المنهوبة ضدّ أوطانهم. وهو ما فعله الثرى الأميركي لمّا استغل الفقير التونسي حتّى يساعده على تهريب التمثال.
الراي كتب روجي جارودي كتابا سمّاه «حوار بين الحضارات» اِتّهم فيه الغرب واعتبر وجوده «صدفة» ورأى أنه قام على انقاض الحضارات الأخرى (افريقية وآسيوية) التي عمل طويلا على تدميرها. على نفس هذا الهاجس تنهض رواية التمثال مجرّمة الآخر مشككة في نوايــــاه.
- الحضارة الغربيّة صدفة. هذا كلام خطير يحتاج إلى تدقيق ولا يمكن قبوله أو رفضه بسهولة. لكن من المؤكّد أن الحضارة الأوروبية مدينة في نهضتها وأسسها إلى الحضارة العربية الإسلامية وهذا شيء صار ثابتا ولكن لا يعترف به في كل الحالات فهناك نيّة واضحة في طمس المؤثرات
الحضارية العربية منذ فتح الأندلس وتواصل ذلك في الحروب الصليبيّة. فالمعلوم أن أوروبا كانت تعيش في عصور الظلام والانحطاط لذلك انبهرت بالحضارة العربية الاسلاميّة في الأندلس وفي مصر وفي افريقية واقتبست الكثير في مجالات الطب وفي الهندسة المعمارية وفي الزراعة وفي الفلسفة ولولا كتب ابن رشد وعقلانيتها لما وصلتها الفلسفة اليونانية. دون أن ننسى ابن خلدون مؤسس علم الاجتمـاع رغم أنهم لا يعترفون الآن إلاّ باقيست كونت (ق 19).
ولذلك من واجبنا أن نصحّح هذه الآراء ونذكّر بعطائنا طيلة قرون عديدة وأن لا ننبهر كثيرا بهذه الحضارة ونحاول في الآن نفسه الاستفادة منها لأننا في حالة ضعف بالنسبة إليها والمهمّ أن نتجاوزها وهذا ما نؤكّد عليه في الأدب المقارن بالخصوص.
الراي استدعاء الشخصيات المرجعيّة: تاريخيّة وأسطوريّة، هل هو إقرار منك بأن الشخصية الواقعيّة بما أصابها من أمراض لم تعد قادرة أو صالحة لتكون شخصيّة سرديّـة فاعلة ومغامرة؟ وأقصد استدعاء شخصيّة صدر بعل، مثلا وتانيت وعليسة. وكاتون...
- هذه بعض الشخصيات ولا يمكن أن نسحبها على العمل كلّه فبقيّة الشخصيات مستلهمة من الواقع التونسي. ولكن الرواية شكل منفتح فهو قابل لتوظيف شخصيات واقعية من ناحية وشخصيات أسطوريّـة وتاريخية من ناحية أخرى. ولعل شكل الرواية هو الذي يفرض ذلك حتّى نثري الشخصية فتقدّم رموز ليست في الواقع للتعبير عن هذا الواقع. ومن ثمة فالشخصيّة المرجعيّة ليست مقصودة في حدّ ذاتها وإنما هي هادفة للتعبير عن هذا الواقع.
الراي «التمثال» رواية طافحة بالأحلام والكوابيس والاستيهامات التي تطارد الشخصية أينما حلت. حتّى تستبدّ بها فيلتبس الواقعي بالحلمي فلا نكاد نتبيّن الواحد من الآخر. هل هذا هروب من الواقع؟
- لا ليس هروبا من الواقع. فأمينة البوني تسأل: «أيّهما حق الحلم أم الواقع؟» وكأنها تجيب كلاهما حق، ولذلك فالحلم ليس هروبا من الواقع بل هو تأسيس لواقع جديد. وأنا لسـت مع من يهرب من واقعه إلى أحلام رومـانسيّة وكوابيس الجريمة. فكـلّ الأحلام موظـّفة لتحقيق الواقع وإعادة تركيبه.
الراي لعلّ «التمثال» أول رواية تونسيّة تدخلنا مكتب الوزير هل تعتقد أن علاقة المثقّف والسلطة بهذه الشفافيـّة التي قدمتها الرواية ؟
- المثقفون أصناف عديدة، وقد بيّنت هذا في مقال صدر في كتابي الأخير الذي صدر سنة 2000 بعنوان «إشكالية المنهج» وجاء المقال تحت عنوان «سلطة المثقف ومثقّف السلطة» وبهذا التصنيف يمكن أن نفهم العلاقة بين المثقف والسلطة. قد تكون علاقة اِنسجام وتجانس ولكن قد تكون علاقة نقدية اشكالية. أمّا ما ظهر في التمثال فهي علاقة إيجابية في الحقيقة. ولكنها أقصى ما يسمح به الظرف الحالي من حريّة التعبير. وليس معنى ذلك أنّها في الواقع على مثل هذا الانسجام. فالمثقف متمسّك بقدرته على انتاج المواقف. وهو عادة متمسّك باستقلاليته فلا ينخرط بسهولة في الفكر الثابت بل يحاول أن يبدع فكرا مغايرا وجديدًا. وعند ذلك يقع التماس مع السلطة وربّما الاصطدام. والمثقف في التمثال لم يصل إلى هذا التنازع.
الراي هل من خصوصية للرّواية التونسيّة؟! أم أنّ الحديث عن الخصوصية ما زال بعيدا؟!
- كنت شاركت في مؤتمر الرواية العربية الأوّل بالقاهرة منذ ثلاث سنوات بمناسبة الذكرى العاشرة لحصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل وكانت الندوة الأدبيّة بعنوان «خصوصية الرواية العربية». ولم يفكّر أحد من المشاركين في خصوصية مغاربية أو مشرقية ولا خصوصية تونسية أو مغربية.. لأنّ جميع هذه المحاولات تصبّ في مصبّ واحد هو خصوصية الرواية العربية بالنسبة إلى الرواية العالميّة: يعني سواء الغربية أو الأميركية اللاّتينية أو الصينية أو اليابانية التي بدأت تفرض وجودا مستقلاًّ. ومن ثمّة كانت الجهود منصبّة نــحـو إيجاد خصوصيّة عربيّة لا قطرية. وهذا لا ينفي وجود ملامح اقليمية وخاصة محلية، فكل كاتب يستلهم واقعه، والواقع العربي عموما متشابه مع بعض الخصوصيات التي تستلهم في المضمون ليس في الشكل. فكل الروايات متجذّرة في التراث السردي العربي.
الراي الرواية المغاربية والتونسية بشكل خاص متهمة من نقاد الشرق بأنها نسخ مشوّهة للرواية الفرنسية وللرواية الغربية بشكل عام.
- هذه التهمة باطلة. لأنها مبنـيّـة على الجهل. وما أنا متأكّـد منه هو أن إخواننا في المشرق يجهلون جهلا يكاد يكون تامّا رواية المغرب العربي باقطاره الخمسة- إلاّ ما شاء ربّك - وأقصد بعض الاستثناءات الناتجة عن علاقات شخصيّة. دليلي على ذلك أن الرواية التونسية كانت معروضة في معرض الكتاب الدولي بالقاهرة ولم يكن هناك اقبال على اقتنائها. بل أكثر من ذلك قدّمتُ شخصيا في معرض الكتاب بالقاهرة منذ ثلاثة أشهر محاضرة حول اتجاهات الـرواية في تونس. ومع الأسف لم أجد مما يقرب عن مليون زائر من له حبّ اطلاع كاف لحضور هذه المحاضرة ومعرفة ماذا يحدث في تونس باستثناء عدد قليل لم يتجاوز الأربعين. وقس على ذلك الرواية المغربية.. ولكن هناك بعض الإستثناءات التي تجد لها طريقا عبر النشر في الخارج: في بيروت والقاهرة، ورغم ذلك لست متأكدّا من أن المشارقة يقبلون على قراءة الرواية المغاربية لأنهم مع الأسف -ويصرّحون هم بذلك - يشعرون بنوع من الإكتفاء الذاتي - وهذا أشهّر به دائما في تونس وخارج تونس وأكبر المحاولات الناجحة في الرواية التونسية، وهي كثيرا ما تفوق ما يرد علينا من المشرق. ولكن هي عقلية قديمة لعلها تعود إلى عهد الأندلس. وقد كتبت مقالا في كتابي الأخير بعنوان «ثقافة المركز وثقافة المحيط» وبيّنت أن بعض الأقطار العربية تنصبّ نفسها مركزًا مشعّا وتعتبر سائر الأقطار العربية الأخرى هامشا أو تخومًا. ولكن وكأنني في مـصـر بدأ هناك اتجاه منفتح على المغرب العربي يتزعّمه جابر عصفور - وهذا يجب أن ننوّه به - وهناك من بدأ يقتنع بـأنّ الثقافة المغاريبيّة لا تقل شأنـا عن الثقافات المشرقية.
الراي تحدّث بعض النقاد عن بعد صوفي في كتاباتك مستندين خاصة إلى تصديرات صدّرت بها رواياتك من ديوان الشيخ المتصوّف ابن العربي، هل توافق على هذه القراءة ؟!
- في الحقيقة لا. ليس هناك بعد صوفي. بل هي مجرّد شواهد من ديوان ابن العربـي «ترجمان الأشواق» لا غير. تأتي تصديرا لكل رواية من الروايات الثلاث مجرّدا من بعده الصوفي. وهو تبنّ للصورة. وأجد ذلك في بيت مكتنز بالمعاني ومناسب للمقام فصدّرت «دنيا» بصدربيت «لقد صار قلبي قابلا كل صورة...» وأردفته بعجز لصوفي آخر هو أبو الحسن الششتري وكأنه يجيب به ابن العربي يقول: «... فانظر إلى ماسك الصّور». وصدّرت المعجزة بيتين لابن العربي:
«رأى البرق شرقيــا فحنّ إلــى الشرق
ولو لاح غربيّا لحـــنّ إلـى الغـــــرب
فإنّ غــرامي بالبُــريق ولمحــــــــــــــه
وليس غرامـــي بالأمــــاكن والتّـرْبِ»
وكذلك الأصل لا يهمّ في المعجزة لأنّ الإتحاد يقع على صعيد المحبّة الخالصة والأمر نفسه مع التمثال الذي صدّرته ببيت ابن العربي
«أدين بديـــن الحــبّ أنّـى توجّهت
ركائبـه، فالحــبّ دينـي وإيمـــاني».
الراي بقي أن أسألك، لماذا تتكرّر إيطاليا في رواياتك، فعادة ما تقع الأحداث بين تونس وإيطاليا. هل هذا اختيار أم هي عفويّـة ؟!
- في الحقيقة لم يكن ذلك مقصودا. ففي «التمثال» مثلا استوجبته الحقيقة التاريخية. حقيقة الصراع بين قرطاج وروما. أمّا في المعجزة: فلأنّه فيها بعض الواقعية ومنها أن فتـاة إيطالية اتصلت بأحد أقاربي وطلبت منه ما طلبته مريم أو مريّا من عبد الستار في الرواية..
الراي ختاما: عوّدتنا برواية كل ثلاث سنوات هل ننتظر هذا العام رواية جديدة وقد مضَى زمن العادة على الرواية الأخيرة؟ !!
- هي موجودة في الذهن ولم أشرع بعدُ في تحريرها لانشغالي بروايات غيري، هو هاجس البحث الذي أخذني من الرواية مؤقتا وربّما تصدر في موعدها !! رغم انشغالي هذه الأيام بالرواية النسائية في تونس وتجارب جديدة في الرواية التونسية.
[email protected]
طرشونة في سطور
ناقد وروائي واستاد التعليم العالي بالجامعة التونسية (مند 1971)
* درس بدار المعلمين العليا بتونس (1963- 1966) و بجامعة الصوربون بباريس (تحصل على دكتوراة الدولة في الادب المقارن 1980)
* يشرف على عديد اطروحات دكتوراه الدولة ورسائل الماجستير
* مدير عام للدراسات والبحوث بمؤسسة بيت الحكمة (1987-1992)
* عضو لجنة تحكيم جائزة الملك فيصل.
* عضو المجلس العلمي بكلية الاداب بتونس والمكتب التنفيذي لنقابة التعليم العالي والبحث العلمي والهيئة المديرة لاتحاد الكتاب التونسيين
* شارك في مؤتمرات الادباء العرب بكل من عمان وصنعاء وعدن وبغداد وتونس.
* القى محاضرات في معهد الدراسات العربية (منظمة الالكسو) وفي جامعة طشقند بيوزبكستان وجامعة القاهرة (مائوية طه حسين ومؤتمر الادب المقارن) وعين شمس (مؤتمر النقد الادبي ) وفي مؤتمر الرواية العربية (المجلس الاعلى للثقافة بمصر) وفي جامعات تونس والجزائر وطرابلس والمغرب والبحرين واليرموك وغرناطة وصقلية وباريس وتولوز واكس ولندن ومدريد مع زيارة الصين وروسيا وأميركا.
* تحصل على الجائزة التقديرية للاداب والعلوم الانسانية (1998)
صدر له من الكتب نقدية
1- الادب المريد في مؤلفات المسعدي ط1 تونس 1978- ط5 1997
2- مباحث في الادب التونسي المعاصر - دراسات نقدية في مؤلفات المسعدي والمدني والفارسي وخريف ـتونس 1989- ط2 1998
3- مدخل الى الادب المقارن وتطبيقه على الف ليلة وليلة - ط1 تو نس 1986 ط2بغداد 1988 ط3تونس 1997
4- الهامشيون في المقامات العربية وقصص الشطار الاسبانية (اطروحة دكتوراة الدولة صدرت بالفرنسية 1982 عن منشورات الجامعة التونسية - بصدد التعريب)
5- مائة ليلة وليلة - دراسة وتحقيق ـالدار العربية للكتاب 1979 ط2 دار الجمل المانيا 2004
6- صلاة الغائب ـتعريب رواية الطاهر بن جلون-تونس 1985
7- من اعلام الرواية في تونس - مركز النشر الجامعي.تونس 2002
8- اشكالية المنهج في النقد الادبي.دار المعارف سوسة 2000
9- تاريخ الادب التونسي الحديث والمعاصر (بالاشتراك) بيت الحكمة قرطاج 1993
10- نقد الرواية النسائية في تونس.مركز النشر الجامعي تونس 2003
11- محمود المسعدي الاعمال الكاملة 4. مجلدات جمع وتقديم وببليوغرافيا - وزارة الثقافة ودار الجنو ب 2003
صدر له في الابداع
12- نوافذ مجموعة قصصية 1977 ط7 1997
13-دنيا - (رواية) تونس 1993 ط 2 -1997
14- المعجزة (رواية) تونس 1996 ط2 1998
15- التمثال (رواية) تونس 1999
* ألّف عنها كتاب جماعي بعنوان عالم محمود طرشونة الروائي والقصصي.اعداد محمد صالح بن عمر.تونس 1998