تحدّثنا في المقالة السابقة عن حرية التّعبير وقلنا إنها حرية ضمن حدود: حدود خصوصية الآخرين وحقوقهم وحدود القانون. ولا حرية خارج هذين السياقين لأي من البشر، كائناً من كان.
نتحدث هنا عن موضوع مُتّصل مُنفصل، ألا وهو حرية الكلمة.
من نعم الله أن وهبنا، أكثر من الكائنات الأخرى، ملكة اللغة، فمكّننا من سنٍّ مبكرة من التحدث بها لنعبّرعن أنفسنا ونتفاهم مع الآخرين. وتطوّرَ الأمر لنتمكن من حل أصعب المسائل، والتحاور حول أعقد القضايا، وإجراء أدق الدراسات، والتفكّير بأعمق الأمور.
وهذه نعمة ما بعدها نعمة.
لكن من نِعَمِه أيضاً، أنه مَنَحنا اللغة واستخدامها بالمجان. لا ندفع فلساً واحداً لقاء ذلك. وهذه من الحالات النادرة في حياتنا. فلا يوجد عدّاد، كعداد الماء أو الكهرباء مثلاً ندفع فاتورة بناءً عليه في نهاية الشهر؛ ولا يوجد اشتراك شهري أو سنوي أو كرت نشحنه كلما انتهى الرصيد، مثل الإنترنت.
نتكلّم بالمجّان متى شئنا، دون كلفة.
ممتاز.
لكن: هل هذا يعني أن نستخدم اللغة بأريحية تامة، وبلا قيود؟
كلاّ، فهنالك دوماً قيود، منّا نحن ومن غيرنا، تُمليها السيّاقات والأطر.
خذ، مثلاً، الغرف الصفية والندوات والمؤتمرات والملتقيات والبرامج الإذاعية والتلفزيونية وغيرها؛ نتحدث فيها ضمن الوقت المتاح لنا وفي إطار الموضوع المحدّد وحسب القواعد والبروتوكولات المرعية.
ففي المحاضرة يتحدث الواحد عندما يُسمح له ولمدة محددة، وفي الندوة عندما يأتي دوره وضمن الوقت المتفق عليه، وفي المقابلة يبدأ عندما يُسأل وينتهي عندما يُسأل السؤال الثاني أو ينتهي الوقت.
إذاً، شئنا أم أبينا، هنالك قيود على الكلام في السياقات الرسمية. وهنالك قيود أيضاً في السياقات غير الرسمية، بما فيها الحديث مع أفراد العائلة في البيت، وحتى مع الأصدقاء. ما دمتَ تتحدث مع الآخرين فهنالك قيود تفرضها رغبتهم في الاستماع والمدة المخصصة لك ودرجة تركيزهم وتقبّلهم أو عدم تقبّلهم لما تقول.
والشخص الذي يتعدى الحدود قد يقاطعه الناس أو ينهرونه أو ينفرون منه أو يتجنبونه؛ وقد يقاطعونه أو يعادونه.
لكن ماذا لو كان الشخص المعني هو الذي يتحكم في الموقف؟ كأن يكون المدرّس أو خطيب المسجد أو المذيع أو المحاور أو المسؤول الكبير أو رب العائلة؟ ذات المبدأ ينطبق، لأن لتركيز الناس، ولصبرهم حدوداً.
الإشكال يكمن عندما يظن الفرد أن لا حدود لكلامه؛ وأكبر مثال على ذلك وسائل التواصل الاجتماعي، والتي يُسيء الكثير استخدامها، ظانين أن أي شيء يمكن أن يقال وفي أي وقت وبأي أسلوب.
والحقيقة أن ذلك خطأ. أولاً لأن وسيلة التواصل ليست ملكاً للشخص، كون لا كلفة عليها وكونها متاحة بيسر؛ وثانياً لأن هذه الوسيلة هي منبر عام وليس خاصاً؛ فهي مقروءة ومسموعة ومرئية من الآخرين؛ وأنهم قد يستحسنون أو يستثقلون أو يضجرون أو يغضبون مما يقال، فيهملونه أو يمحون صاحبه من قائمة الصداقة.
هنالك دوماً قيود وحدود وأصول للكلام؛ وخيره الكلام الناضج المسؤول؛ والذي هو فن وذوق وأخلاق.
الكلام الناضج المسؤول
12:16 2-5-2021
آخر تعديل :
الأحد