كتاب

«حرية التعبير»

نعود لموضوع حرّية التعبير مرة أخرى.

نعي أننا نعيش في مرحلة تعاظمت فيها وسائل التعبير، الرسمية وغير الرسمية، على نحو غير مسبوق. وسائل التواصل أصبحت متاحة للجميع، أفراداَ ومؤسسات. ومن الطبيعي ان يُعبّر الناس عن آرائهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً. وهذا مطلب أساسي وأمر صحي. فكلما تعددت الآراء كلما أُثري النقاش وكلّما اتضحت معالم القضايا. وإذا آمنا بتعددية الآراء، ويجب أن نؤمن، فيكون المجال متاحاً لصانع القرار، أو لأي شخص، لأخذ القرار الصائب نتيجة لهذه التعددية. وكلّما ازدادت الزوايا التي ننظر منها لأمر ما كلّما كان قرارنا أصوب وأدق.

ولا توجد مشكلة هنا. لكن الإشكال يكمن في حدود الآراء وحدود حرية التعبير.

هل هنالك حدود للتعبير وحدود لحرية الرأي؟

هذا هو السؤال الجوهري الذي يجب أن يتنبه له الناس ويجيبون عليه بدقة وموضوعية.

لهذا السؤال إجابتان تُذكران معاً.

الأولى، وهي لا. لا يجب أن يكون هنالك أية حدود أو قيود على حرية التعبير أو الرأي، إذا كانا جادّين مدروسين مهنيين مسؤولين. هنا نقول «حرية سقفها السماء».

ما هو النظام التربوي الذي نريد؟ كيف ننهض بالاقتصاد؟ كيف نُحقق الإصلاح السياسي المنشود؟ كيف نقضي على فيروس كورونا؟ كل الآراء يجب أن تُطرح.

المبدأ هنا معروف: رأيان أذكى وأدق من رأي واحد؛ ثلاثة آراء أذكى وأدق من رأيين. وهكذا.

لكن هنالك إجابة ثانية على السوال، ألا وهي نعم. نعم، يجب أن يكون هنالك حدود أو قيود إن كان في الآراء شطط أو انزلاق أو انحراف، وإن كان فيها أذىً أو ضرر أو اعتداء على الآخرين. والمبدأ هنا معروف: «تنتهي حريتك عندما تبدأ حرية غيرك». فالآراء غير المدروسة غير المسؤولة أو الطائشة، قد تُشتت الذهن وتحرف النقاس عن مساره وتخرج الأمور عن سياقاتها، فتصبح عاملاً غير مساعد. أو قد تكون كالرصاصة الطائشة تصيب أحداً بمقتل.

والأنكى والأسوأ إذا كانت رصاصة موجهة.

دول عربية شقيقة، في «الربيع» المشؤوم إيّاه، دمّرها إعلام مسموم موجه من الخارج.

لا تنسوا!! هنالك حدّان إذاً لا بد من التأكيد عليهما حتى تكون حرّية الرأي بنّاءة مفيدة للناس والمجتمع: حرية الآخرين والقوانين. والحد الثاني مُهمّ هنا، أولاً إذا كنا جميعاً نريد دولة القانون التي نتغنى بها، وثانياً إذا أدركنا أنّ الحضارة – أي حضارة – لا يمكن أن تنشأ وتنمو وتترعرع إذا لم تكن مُؤسسة على القوانين.

وهذا ديدن المجتمعات البشرية. فإذا ما نظرنا إلى أعرق الديمقراطيات في العالم نجد أن أكثر ما يُميزها، وأكثر ما يتحكم بمسلك الفرد وفعله ولسانه، هي القوانين، والقوانين الصارمة. فالقوانين تضمن حقوق الناس، وتضمن سِلم المجتمع وأمن الدولة. من هنا نقول أن مقولة «حرية بلا حدود» هي ضرب من الوهم وشطط في التفكير وسذاجة.

فالحرية يصبح لها معنى وتتحقق منها الفائدة عندما تكون مراعية للقواعد والأعراف الإنسانية الراسخة، ومن ضمنها احترام حقوق الآخرين.

ومعروف عن مجتمعنا حسن الخلق والأدب في التعامل واحترام الآخرين. ونُذكّر هنا بالحكمة التي تربّينا عليها، والتي يبدو أن البعض قد نسيها أو تناساها في خضم لعبة «حرية التعبير»:

جراحات السنان لها التئام ولا يلتام ما جرح اللسان