كتاب

و.. آه يا حلب!

في مقال الاسبوع الماضي سهوتُ، وأعتذر عن السهو، إذ قلت ان المسيرة الإنسانية بدأتْ قبل اثني عشر قرنًا وقصدتُ اثني عشر الفاً من السنين، وكنت أنوي ان أتحدث اليوم عن جانب آخر من هذه المسيرة لكن روايةً للسوري المدهش خالد خليفة بعنوان «لم يصلِّ عليهم أحد» جذبتني بأحداثها التي وقعت في حلب ما بين أواخر العهد العثماني وطوال الحكم الاستعماري الفرنسي، واستعرضتْ بشفافية حياة سكانها بمشاهد شديدة الواقعية من علاقاتهم العاطفية، البسيطة او المعقدة، سرّيةً كانت أم مفضوحة، وعلى اختلاف معتقداتهم الدينية او أصولهم الاثنية، عرب?ً او اتراكاً او أكراداً او أرمن، مسلمين او مسيحيين او يهوداً او مثقفين على حواف الالحاد الذي تمكنت منه عقولهم بوصول علوم الفلسفة من أوروبا، وتبعًا لأخلاقهم المتراوحة بين التزمت الصارم والانفلات حد المجون فرّقهم بون طبقي شاسع بين الملاكين من ورثة الاقطاع وبين الفلاحين رقيق الأرض، وسط احزان هائلة خلّفها طوفان الفرات في المزارع والقرى وعمّقها وباء الطاعون في المدينة الكبيرة، كل ذلك وهم يرزحون تحت حكم قمعي تركي ازداد قسوة ًوهو يتهاوى في السنين الاخيرة للإمبراطورية العثمانية أوائل القرن العشرين، كما رانت على ال?دينة محنة المواطنين الارمن بعد المجزرة الرهيبة التي ارتكبها بحقهم جيش كمال أتاتورك،ثم جاء المحتلون الفرنسيون ليطبقوا سياسة (فرّق تسُد) كأي مستعمر آخر، حتى غضوا الطرف عن غلاة المتعصبين الدينيين وهم يذبحون بسيوفهم كل من يتهمونه بالكفر والزندقة مسيحياً كان او مسلماً ويحرقون ديْرًا يؤوي مسنات فقيرات كنّ في صباهن يحترفن البغاء! كما بدأت بالظهور بقوة حركة المقاومة الكردية المسلحة مطالبةً بدولة مستقلة، ومع كل تلك الصعوبات الحياتية برز المجتمع الحلبي اكثر انفتاحا على العالم الخارجي وأكثر تقدمًا واتقاناً للصناعات ا?جديدة المنقولة عن اوروبا، وظهرت بيوت تصميم الأزياء النسائية وتميز التصوير الفوتوغرافي كفن برع به الأرمن، ورغم التضييق الرجعي على تراثها الأصيل ازدهرت مدارس الموسيقى والرقص و الغناء حتى ان كثيرا من المطربات اللاتي اشتهرن في مصر إبان عصرهن الذهبي جئن أصلا من حلب.

اما في الجانب العاطفي من الرواية فتتبدى عبقرية الروائي في وصفه للوشائج المختلفة بتفاصيلها الحساسة الصريحة حتى لو كانت تجري وراء النوافذ المغلقة في بيوت العائلات الكبيرة وبأسلوب ممتع كاللحن الجميل يطوف بالعاشقين في بحور اللذة التي ما زالت مجتمعاتنا تستنكرها وتنكر وجودها في طبيعتنا، لكن بعض روائيينا وروائياتنا اقتحموا أخيراً ميدانها.. وبجسارة.

وبعد.. صحيح ان الرواية ليست بديلًا عن التاريخ لكن خالد خليفة في «لم يصلِّ عليهم أحد» أتاح لقرائه ان يعايشوا أهل حلب في تلك الحقبة من الزمن وأن يتعرفوا على نمط حياتهم المتنقل بين التحرر والانطلاق حد الطيش، كما جعلهم يحزنون أشد الحزن وهم يلمسون معاناتهم من ظلم حكامهم الأجانب.. وآه يا حلب!