الفن التشكيلي في الأردن بدأ مشواره حديثا من حيث التوقيت ، فقد جاء بعد انقطاع طويل زمنيا، وكذلك تأخر عن غيره في الوطن العربي من حيث النشأة وأنه بدأ منقطعا عما سبق له من فنون بصرية، سواء في العربسة (Arabesque) أو الزخرفة التزيينية، ويظهر هذا الانقطاع في تناول الفنانين للوحة المسندية التي تعلق على الجدار، بدلا من تلك الملحقة في المخطوطات والعمارة والحرف التطبيقية، وسبب ذلك مؤثرات استشراقية وأجنبية، تمت بالمثاقفة والدراسة في الغرب ، أو على أيدي رواد عرب درسوا في الغرب وقد وجدت اللوحة الجديدة ترحيبا لدى فئة من الناس، ورفضا من فئات أخرى.
أن أي عملية ثقافية تغييرية، لا بد لها من ظروف اجتماعية وسياسية واقتصادية، تهيئ لها التربة الصالحة للاستزراع والنمو، فما هي هذه البيئة؟ وما هي ملامحها ؟ وهل هناك من استمرار لوجودها في الآن الراهن والمستقبل؟
يبدو لي أن هذه الحداثة (Modernism) التشكيلية ، لم تكن المظهر الوحيد للمتغيرات الثقافية في تحولات الوجدان الحديث، إذ أن نظرة سريعة على خارطة الإبداع التشكيلي المعاصر في الأردن، تبين لنا تلك التحولات في أشكال عديدة من الفنون الأدبية والبصرية.
ولقد عبر الشعر في الأردن عن هذه الحالة بالثورة على تقاليد القصيدة العربية التقليدية، وهو إن وجد بعض المقاومة في البداية، فإنه حافظ على خط تصاعدي في وتيرته واتساعه، ونذكر أن بداية الحداثة الشعرية العربية قد تمت في بداية الخمسينيات على يد كل من بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي وآخرين ، ولقد كانت هذه البداية مجرد الشرارة لبداية عصر شعري جديد في الوطن العربي، على أن هذه البداية قد تمت بعد العديد من حالات التجديد في الشعر العربي ، ابتداء من البارودي في حركة الإحياء الشعري العربي مرورا بأحمد شوقي ثم بمدرسة الديوان والشعر المهجري والحركة الرومانسية ، بمعنى أن الثورة الشعرية قد بدأت من واقع شعري موجود على الأرض بعكس الفنون التشكيلية التي انقطعت لمدة طويلة وخاصة في العهد العثماني، الأمر الذي رمى برواد الفن التشكيلي العربي إلى البدء من لا شيء والركون إلى المنجز التشكيلي الغربي والأردن مثال واضح على ذلك.
لقد تم استحداث الفنون التشكيلية على غير تقاليد الفن العربي بشكل عام ، اللهم إلا إذا استثنينا بعض الفنانين الفطريين والشعبيين، الذين توارثوا الفن كمهنة تزيينية عن سابقيهم ، أو كان لهم ملكة متفجرة من الإبداع ، تجلت في هذه الرسوم والتصاوير ذات الطابع الشعبي المتوارث، الذي يكتنز في ثناياه بقايا من تأثيرات إسلامية ، أما التيار الذي هيمن على الساحة التشكيلية آنذاك، فهو لوحة مسندية ذات تقاليد غربية تماما، من حيث التقنيات والأسلوب والرؤية ، ما خلا بعض المواضيع التي ظلت عربية أو شعبية (محاولات مهنا الدرة ورفيق اللحام في استلهام البيئة والفلكلور الشعبي)، جنبا إلى جنب مع مواضيع ذات طابع غربي، ذلك أن التغيير نحو الحداثة لم يكن سهلا وكان لا بد من عملية جدل بين الذات والآخر وبواسطة هذا الجدل يتم تجاوز المنجز الذاتي وتجاوز منجز الآخر فالتغيير(لا ينفصل عن تغير تصور الذات عن نفسها وتنامي نزعتها لتحديد استقلاليتها عن طريق التعبير الذاتي عبر مجموعة من اللغات المتعارضة على مستوى ما والمتكاملة على مستوى آخر) فالتعارض والتكامل متلازمان في حداثتنا التشكيلية لكنهما لم يصلا بنا دون خسائر، من هنا نرى أن الحركة التشكيلية الأردنية (ما زالت تراوح في المحاولات الفردية المنتقلة في عربات المرجعيات الثقافية المتنوعة ما بين الشرق والغرب اوتندرج في سياق أنشطة اجتماعية «نخبوية» والتي تأخذ اتساعا وامتدادا هرميا شاقوليا «المؤسسات» وأفقيا «الفنانين والمنتوج الفني» في سياق كمي عددي وليس نوعي) ويعود هذا التنوع الكمي والنوعي نظرا لتعدد أماكن الدراسة الفنية (روما باريس ،مدريد،موسكو،طوكيو، أمريكا، القاهرة، دمشق وبغداد) .
وهكذا يمكنني القول:أن الفن التشكيلي في الأردن قد بدأ حداثيا منذ البداية، وظل حداثيا حتى النهاية، أقول حداثيا وهذا يعني تغييريا وحركيا(الحداثة وما بعد الحداثة)، بمعنى رفض الفنان التشكيلي لكل أنماط الفن العربي القديم، واستبداله بفن حداثي مستورد، لاقتناعه بأهمية وتفوق هذا الجديد ، وبمعنى أدق فإن الحداثة لا تعني التغيير السلمي ، بل إن فيها شيئا من طبيعة الانقلاب ، فهي ثورة على القديم وتكريس للجديد، ولكنا لم نكن بمستوى هذا الجديد فالحداثة لا تقتصر على وعي بجانب دون آخر وإنما هي اتجاه شمولي يطال الفكر والفن والأدب وتتجه نحو التغيير الاجتماعي الذي يطال كل مستويات الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية ،أقول هذا وأنا أدرك أن هذا الانقلاب، قد تم بمساعدة الآخر الغرب، بعد أن وجد تربة صالحة له، في ظل غياب النموذج التشكيلي المحلي، وفي ظل الاستعمار العسكري والثقافي للبلد ، وقد تم استغلال القوى الفنية الجديدة التي درست في الغرب، وتتلمذت على أيدي الفنانين المستشرقين(جورج أليف الروسي، برونو الإيطالي الذين درسا العديد من الفنانين الأردنيين في مرسميهما في عمان الخمسينيات)، فكان هذا أقرب إلى الانقلاب منه إلى الثورة ، أي أنه لوى المنحى التجديدي في الفن، لحساب وعي زائف، ما زال يفعل فعله في تشكيلنا المعاصر، مراوحا بين الواقعية الجديدة وتخوم الانطباعية.
ومن هنا تأتي تلك الفجوة التي فصلت التيار العام للحداثة التشكيلية، عن التيارات الأدبية والأيديولوجية السائدة ، في البدايات وما بعدها - بعكس فنون الأدب الأخرى - (ولما لم يكن اندماج الفنان في التركيبة الاجتماعية قائما آنذاك، فقد سعى نحو نوع ما من هوية الجماعة، وفي ذلك الوقت بدأت تتشكل جماعات ونواد أدبية وفنية (ندوة الفن والنحت ،جمعية الفنون والآداب وغيرها)، هذه الفجوة كان لها جانب إيجابي وآخر سلبي، فهي من جهة قد جنبت التشكيل الأردني الحديث، من الوقوع في براثن الأيديولوجيا والدغمائية(Dogma) ليظل مخلصا لجمالية العمل الفني، ومن جهة أخرى أوقعت التشكيل الأردني والعربي في تقليد اللوحة الغربية، دونما حسابات تأصيلية، تضع الضوابط والفرامل من الشطط ، تخطط لرؤية تشكيلية عربية.
لقد اتفق التشكيليون الأردنيون على منهج يحتفي بالانتقائية والتهجين ، لذا فقد أوصلتنا هذه الخلطة إلى وعي زائف، ناتج عن مقولة صحيحة، ولكنها مورست بشكل خاطئ ، ألا وهي الفصل بين الشكل والمضمون ، ومن هنا جاءت مشاريع التأصيل (foundation)فردية وعشوائية، إذ لم يخل الأمر من وجود مبدع ذو رؤية هنا وهناك، وقد تعامل هؤلاء المبدعون مع التأصيل بفردية ، بعيدا عن الأيديولوجيا والمأسسة في البداية، مما أوقعهم في السطحية أو التسرع أو التصوف ، لكنه أعطاهم شيئا من حرية الإبداع الذي لم يجد محيطا يتفاعل مع هكذا فردية ، إبداعا لا يمتلك الميكنة الإعلامية والمؤسسة السياسية، القادرة على تبني المشروع التحديثي الذي ينادون، ثم تضاءل هذا المشروع بفعل عوامل سياسية وأزمات اجتماعية وثقافية مختلفة.
إن الجو السياسي والأيديولوجي المتصارع في البدايات، قد أتاح للعديد من الفنانين الذين لا يملكون أية إمكانات إبداعية، من تعزيز وجودهم في خارطة التشكيل الأردني الحديث، تبعا لانتماءاتهم الأيديولوجية أو الجهوية، الأمر الذي أدى إلى تهميش دور الفنان، وتأخير مؤسسات المجتمع المدني التي تصب في الحداثة، وهكذا استمرت حداثتنا آخذة الشكل الانقلابي بدون انقلابيين، ذلك أنه لم يكن لدينا تشكيليا ما ننقلب عليه من حيث المرجعية، وإن كان هناك من التربة والظروف ما يحتم علينا ذلك، لكن مبدعينا الأوائل لم يكونوا مهيأين لهذه النقلة إلا تقنيا وأدائيا ، بعكس الشعراء الذين وجدوا تراثا ممتدا عبر العصور، فجاءت ثورتهم على ما كان موجودا وليست عملا في فراغ، أما التشكيلي الذي لم يجد ما يثور عليه ، فقد انجرف في وعي زائف لما سمي بالحداثة التشكيلية العربية
ويمكنني تلخيص النقلات التشكيلية في الأردن عبر محاور ثلاثة توجت بما بعد الحداثة وهي: مرحلة التقليد الاستشراقي على تخوم الانطباعية ، ثم مرحلة النسج على منوال المدارس الفنية الغربية الحديثة ، وصولا إلى البحث الفردي عند الفنانين ، وعن أسلوبية خاصة لكل فنان إما بالعودة للتراث ، أو بالمزج بين المدارس الحديثة، (ثمة علامات فنية تشكيلية «..» فردية متميزة حفرت قنواتها الإبداعية وفق التربية الأكاديمية الغربية وعزل الفن التشكيلي عن وظيفته الاجتماعية والدوران المكرور حول تمركز الذات الفردية وبحثها التجريبي في سياق مرجعياته الثقافية وذاكرته البصرية الأوروبية أساسا والمحلية بشكل ثانوي وهامشي) وأخيرا تم تتويج ذلك باتجاه العديد من الفنانين لما يسمى فنون ما بعد الحداثة.
يمكننا القول إن حداثتنا التشكيلية، ظلت تراوح في ظلال الحداثة بكافة أطيافها الناتجة عن وعي زائف ، أو تلك التي ولدت معاقة، كرد فعل على زمن العولمة الجديد ،وليس أمام الفنان التشكيلي إلا الاستمرار ومحاولة اللحاق بالآخر، والمشاركة في التشكيل العالمي المعاصر والجديد، بلغته المتطورة وحسه بضرورة التميز ، ووضع بصمة خصوصية فيه حتى يستطيع البقاء في عالم متغير.
والسؤال الذي يطرح نفسه هو: هل يستطيع الفنان في الأردن أن يسد هذه الفجوة ما بين ما هو واقع وبين ما هو مأمول؟ وهل بالإمكان اجتياز مسافة الفعل المطلوب ضمن رؤى وجهود فردية ؟ وهل نستطيع القيام بهذا الدور كتشكيليين بمعزل عن مجمل الواقع الراهن ؟ أعتقد أن الإجابة عن هذه التساؤلات وغيرها ليس في يد التشكيليين ،وإنما هو مرهون بحركة الواقع وقواه الاجتماعية والاقتصادية التي تعكس فهمها للواقع ومن ثم تعمل على تجاوزه،والتشكيليون جزء منه، وربما كانوا جزءا مهما منه، وعليهم معرفة ما هو مطلوب منهم في هذه المرحلة الدقيقة ، وخاصة في الجانب الثقافي والذي لا ينفصل عن العولمة، وهي عولمة جبارة تلغي خصوصيات الجنس والثقافة والتاريخ ، ولا يمكن البقاء فيها للضعفاء ، ولن يتم تجاوزها إلا بجهود فوق قطرية ضمن مؤسسات كبيرة ، توفر للفن والفنانين أسباب المشاركة بندية في هذا التثاقف السيال عبر وسائل الاتصال والتوصيل البالغة الدقة والتعقيد .
ويمكن القول وبلا مواربة بأن الفن التشكيلي في الأردن قد بدأ من حيث انتهى إليه الفن الحديث في الغرب ، وأنه ما زال يعيش صدمة الحداثة، ويلهث وراء كل تجلياتها غربيا ، دون أن تتوفر له شروط الحد الأدنى من المعطى الاجتماعي والاقتصادي في بيئته فبدا يتيما ومعزولا ، ولم يستطع أن يكون تغييريا نتيجة لأسباب عديدة خلقت مناخا راكدا متخلفا ، في مواجهة المتغيرات الدولية ، ولقد كانت الغالبية العظمى تقلد الموجات القادمة من الغرب دون أي هضم أو تمحيص، وهذا الوضع دفع القليل من الفنانين إلى تكسير الحواجز ما بين الأطر التشكيلية المدرسية المختلفة من جهة، والأدائية (نحت ،رسم ،خزف موسيقى) من جهة أخرى، وصولا إلى القيمة الجمالية وما نشهده من إبداع في ساحتنا المحلية لا يأتي من ذوي الاختصاص، (فالغالبية تتشكل من مخترقي حدود التخصصات، لأن التجديد والإبداع كثيرا ما يكون من طرف باحثين لهم القدرة على تجاوز حواجز التخصصات وإكراهاتها، التي تجعل من إسهاماتهم تدخل في خانة ما يسمى بالهامش الإبداعي ، وبتهميشهم في مجالهم الرسمي ، يمكن أن يوجد مجددون يكونون في الميدان الذي يتبناهم أكثر من ذلك الذي انبثقوا منه) ، وكلما تأملنا إبداعات مهمة نجد أنها في غالبيتها قد تشكلت من الهوامش ، عبر تقاطع الاختصاصات والرؤى ، فهناك كثير من الفنانين المبدعين ممن جاءوا من خارج الإطار الأكاديمي، بل إن هناك كثير من الفنانين ممن خرج من اختصاصه سواء كان ذلك في الاختصاصات الفنية خزفا أو نحتا أو تصويرا أو دراما ..الخ، أو في الاختصاص العلمي هندسة أو طبا أوأدبا وعلوما اجتماعية، فأضاف وأبدع فيما ما لم يأت به السابقون (محمد العامري جاء من ميدان الأدب، عبد الرؤوف شمعون جاء من حقل الدراسات الجغرافية، محمد أبوزريق جاء من الحقل اللغوي، سهى شومان من العلوم الاجتماعية ،علي الغول من الهندسة ، محمد عيسى من حرفة النجارة ،محمود عيسى موسى من الصيدلة،محمد الجالوس من العلوم المالية.. الخ.
إن أهم خصائص فناني ما بعد الحداثة في الأردن هو الحضور المادي الشيئي ضمن زمان ومكان مقرون بحدث بحيث يقدمون العمل الفني نفسه بفجاجة مثيرة ( إنه يقلب المعادلة لصالح الدال مقابل المدلول، المادة مقابل المثال والفعل مقابل التأمل) مثال على ذلك معرض البتراء 1 والبتراء 2 للفنانة سهى شومان والنحت التوليفي للفنانة ساميا الزرو، وأعمال سامر طباع ) وهكذا لم يعد يشغل فنان ما بعد الحداثة التمثيل الخارجي للأشياء ، وإنما كيفية هذا التمثيل ، فلا الرسم والإيهام بقادر على تمثيل الواقع ، وإنما على الفنان أن يستحضر الواقع وأن يجد الطريقة التي يستحضر فيها هذا الواقع دونما ابتذال أو بهرجة هذا الفهم لما بعد الحداثة ما زال محدودا في التشكيل الأردني المعاصر ولكن إشارات تواجده وتسارعه تتأكد يوما بعد يوم .
هناك دائما من يعمل خارج مؤسسة السلطة الثقافية والمنابر الرسمية، وقد تعرض للتهميش ، لكنه يحتل كل يوم مواقع جديدة ، مقوضا سلطة الحداثة لحساب ما يسمى ما بعد الحداثة ، وقد وصفها أدونيس في غير موضع قائلا: (إنما هي استثناءات تسمح بوجودها بعض الشقوق والتصدعات في هيكل المجتمع العربي الثقافي والاجتماعي، استثناءات لا تعيش إلا هامشيا في الأطراف وعلى الضفاف، وهذه الاستثناءات هي ما يمكن أن نسميها بالحداثة المضمرة ، في مقابل الحداثة السائدة).
ابتعد (التأصيل نحو الحداثة والتحديث بازدياد حجم الهوة بين المثقفين والمتعلمين، وغدت القاعدة تتسع كثيرا لاستقبال أنصاف المثقفين وقد حملوا هذه المرة بأيديهم شهادات عليا ..دون أن تكون لهم القدرة على إضفاء ما يحتاجه مشروع النهضة.. وما تتطلبه حاجات المجتمع في المستقبل .. بل غدوا وهم يحتلون مواقعهم أحد أبرز الأسباب المعوقة في الحداثة والتحديث) ولعل الأجواء الجديدة المفعمة بالتيارات ومراكز القوى ، وتراخي المركزية لصالح المؤسسات الأهلية والخاصة، واستقبال عمان لكثير من المعارض العربية والعالمية وانفتاح التثاقف عبر قنوات الاتصال الفضائي ، لعل هذه الأجواء قد سمحت لكثير من المقموعين أن يكتسبوا بعضا من حقهم ، وللأفاقين أن يأخذوا ما ليس لهم ، ليتحول المشهد التشكيلي الأردني إلى مهرجان يعج بالجميل والبذيء، الرصين والركيك ، الأمر الذي سيسفر عبر مرحلة زمنية قد تطول، إلى تفاعل وفرز مستمر ، لكنه لن ينهي الفوضى بقدر ما يعزز الاتجاهات التي تتجاوز الحداثة بحداثة أخرى مضافة ، مع بقاء ما هو رديء وهزيل ومنقول ومقلد (بكسر اللام)، جنبا إلى جنب في ظلال المشهد .
من هنا كان على الفنانين في الأردن، أن يمتلكوا القدرة على إثارة الأسئلة الكبيرة ، وصنع الثقافة المضادة للساذج والسكوني والتقليدي ، إضافة لقدرتهم على أن يكونوا أحرارا في الحركة والرؤى، بعيدين ما أمكنهم عن مناطق الجذب والنفوذ ، قريبين ما أمكن منها في الوقت ذاته ، مستفيدين من المتغيرات واللعب عليها ، في خلق مناخ فني قادر على التواجد والنفوذ ، لأنهم في النهاية ضد النخبوية والجمهور في آن واحد.
ويمكن تلخيص ما يميز هذا التوجه الما بعد حداثي بالتركيز على جدليات: الجمهور / النخبة، الإنسان /التكنولوجيا ، الوضوح /الغموض ، الظاهر/ الباطن، الوجود/ العدم ، الحرفية /التلقائية ، التفكيك /البناء ، والتجريد /التشخيص ، وتداخل الوسائط والتقنيات عبر أكثر من حاسة اتصال كالبصر والسمع واللمس والشم والذوق ،وفضاء الحداثة بمعنى من المعاني هو استمرار للحداثة وتجاوز لها ، وهو بهذا لا يتنكب لمنجزات الحداثة ، ولكنه يعتبرها محطة تؤدي إلى محطة أخرى، قادرة على الاستجابة والتواصل والتحدي ، ضمن حدود ما يتاح لها ، لتكون حالة من الحضور الواعي ، وليس حالة إثبات وجود كما يفعل بعض المدعين ، وهي الموضة الدارجة لكثير من الفنانين الشباب، والحداثة وما بعدها في شقها الإيجابي ، أحد الأوجه الهامة في تحديد ملامح الفن في الأردن مستقبلا ، وهي لن تكون نهاية المطاف، فهي حالة متحركة لا يحتكرها جيل من الفنانين دون من يليه، إنها سعي مستمر نحو الأفق والمطلق ، وهي القديم معجونا بنزق الجديد وراديكالية المستقبليين.
لقد تم تغييب التشكيل الجاد بفعل تأخر وجود المجتمع المدني ، وقد تم هذا التجاهل نحو المغاير لحساب مظاهر تشكيلية هابطة ومباشرة وآنية، فسادت مدارس تهتم بالسياحي والفلكلوري والجماليات التزيينية ، شجعها ذوق استهلاكي محافظ ، فكانت حداثتنا ناقصة ومستلبة، وغير مسنودة بتطور اجتماعي ومؤسسي مواز، فلم تغير ولم تسع إلى التغيير، بل كانت حداثة سكونية، والحداثة لا تتفق مع الساكن، فنحن نسميها حداثة تجاوزا، فبعض مؤسساتنا قد تبنت فنون ما بعد حداثية منقولة من منشأها ، ظنا منها أنها تقدم آخر الموجات الفنية هناك ، فالحداثة ( بوصفها منظورا أو تنظيرا، أو بشكلها العام السائد ، إنما هي غربية بكاملها ، وإننا عندما نتكلم عليها إنما نتكلم عن الآخر ، متوهمين أن هذا الآخر هو الذات) ، ومن هنا تأتي أهمية استحداث ما دعا إليه د.حسن حنفي بعلم الاستغراب ،كمقابل لعلم الاستشراق، (من أجل تحويل الغرب من كونه مصدرا للعلم كي يصبح موضوعا للعلم) .
إن حركة ما بعد الحداثة عند بعض الفنانين الأردنيين لم تلتئم عبر كيان ما، لكنها تتواصل الآن عبر شفرة سرية من إبداع مختلف وجديد، بصرف النظر عن هيمنة النخب الحداثية/التقليدية ، التي تتبادل المنافع والجوائز عبر البيانات والمؤتمرات والمنابر ، فالفنانون الجدد يمارسون أشكالا فنية، تسهم في خلق مناخات للتواصل والتفاعل الخلاق فيما بينهم ، وقد شكلت وسائل الاتصال الحديثة ، جسورا تتجاوز الممرات التقليدية التي كانت تحول بين هؤلاء الفنانين والتقائهم وتفاعلهم ، فخلقوا ميادين موازية لا تخضع للميادين التقليدية والرسمية، ولا تقع في قانون الفعل ورد الفعل ، بل جاءت فعلا إبداعيا يتناغم مع الشروط البيئية والاجتماعية والدولية بوعي وانسجام.