من الصعوبة بمكان النظر الى مذكرات المناضل بهجت ابو غربية بوصفها تأريخا لدور شخصي للرجل في الحركة الوطنية الفلسطينية. ذلك ان من يقرأ هذده المذكرات يكتشف سهولة ان صاحبها كان مسكونا بهاجس الرغبة في تقديم صورة واقعية وموضوعية في ان معا لاحداث ووقائع عاشها او عايشها وشارك في صنع جزء منها على امتداد عقود من الزمن. وقد وصلت الى هذا الاستنتاج عند قراءة الجزء الاول من المذكرات ثم ما لبثت ان تيقنت منه حين قرأت مؤخرا الجزء الثاني منها الذي هو بعنوان «من النكبة الى الانتفاضة».
ولما كنت احد المشاركين في ندوة اقامتها رابطة الكتاب الاردنيين لاشهار مذكرات (ابو غربية) بورقة تناولت الجزء الاول فقد اكتفيت كغيري من الحاضرين بالاصغاء الى قراءة الجزء الثاني التي قدمها الصديق الكاتب والناقد نزيه ابو نضال، وسجلت حينها جملة ملاحظات احتفظت بها لنفسي لان طبيعة الندوة لن تكن تسمح بمداخلات لمناقشة ما جاء في الاوراق.
وفي الحقيقة فانني دهشت حين قرأت ورقة (ابو نضال) منشورة في الملحق الثقافي لصحيفة الرأي «الغراء» في السادس من ايار الجاري، ومبعث دهشتي ان الرابطة كانت قد عقدت العزم على نشر وقائع الندوة في كتاب خاص في وقت لاحق.
ومع ذلك فانني اقرر سلفا بان نشر الورقة في صحيفة «الرأي» او سواها لا يشكل خروجا عن مألوف او انتهاكا لحقوق فما قيل في قاعة على مسمع حشد كبير من الكتاب والمثقفين والمهتمين يصحّ نشره على نطاق اوسع مع فارق مهم وهو ان فرصة ابداء الملاحظات عليه تبدو ممكنة اذ لم تكن متيسرة لحظة انعقاد الندوة.
بداية فان عنوان ورقة (ابو نضال) كما ورد في «الرأي» يثير التباسا شديدا بكل المعاني والمقاييس، سيما وان مذكرات بهجت ابو غربية ليست في متناول القارىء حتى الآن على الاقل فان هكذا «عنوان» ناهيك عن الرسم الكاريكاتيري المصاحب له يشير بقدر مجحف من التشكيك في صدقية وقائع تاريخية اوردها المؤلف في مذكراته اذ من البديهي القول ان الخلط بين الوقائع والمواقف لا يستقيم مع «المنهج» الموضوعي المعتمد عادة في كتابة المذكرات وكتب السيرة الشخصية وهذا شأن لم ألحظه في مذكرات بهجت أبو غربية على الاطلاق فقد كان شديد الحرص على الفصل بين الوقائع التاريخية وبين تسجيل روايته واستنتاجاته وهو أمر يحسب له لا عليه.
وفي وسعي هنا ان اسوق غير مثال بخصوص هذه المسألة منها ما يتعلق بلقاء جمع (ابو غربية) مع الشهيد ابو جهاد (خليل الوزير) حيث يقول: وفي لقائي مع ابو جهاد بحضور جماعة الاخوان المسلمين في القدس جرى تداول في الشؤون الفلسطينية وحديث عن منظمة التحرير والعمل الفدائي فاثار اهتمامي ما عرضه عن ضرورة حمل مصر على الدخول في حرب مع (دولة) العدو الصهيوني واعربت عن تحفظي على هذا التوجه وانه لا يجوز جر مصر الى حرب لا تكون مستعدة لخوضها (ص261).
الذي يتمعن فيما ورد لا يرى ابدا اي خلط بين الوقائع والمواقف فالكاتب هنا يروي تفاصيل حوار جرى حول قضية بعينها فابدى رأيه فيها وبالتالي فان اشارة (نزيه ابو نضال) الى هذه الواقعة من باب تصويبها لا يتماشى وواقع الحال ولو اختار (ابو نضال) كلمة او مفردة من نوع مناقشة لرؤية ابو غربية بدلا من كلمة تصويب لكان ذلك افضل بكثير من استخدام تعبير يثير الريبة والشك في ذهن القارىء واورد هنا نص ما كتبه الزميل ابو نضال فانني اسمح لنفسي بتصويب ما اعتقده غير دقيق في المذكرات رغم اتفاقي السياسي والفكري مع صاحبها!!
والحقيقة ان قرب الكاتب (ابو نضال) ومعايشته لتجربة «فتح» لا يبرر له التشكيك في واقعة اوردها من كان ذات يوم طرفا فيها.
وفي مثال اخر وعلى خطى «المنهج» التشكيكي اياه يتساءل ابو نضال عما اذا كان من حق صاحب المذكرات ان يوظف ما تكشف من حقائق لاحقة في الحكم على امور في زمن سابق دون ادلة او براهيم او قرائن موثقة؟ ويسوق مثالا على ذلك بما ورد في المذكرات حول السعي المبكر لتسوية سياسية مع (الاسرائيليين) وبخاصة ما يتعلق بفكرة اقامة دولة ديمقراطية في فلسطين يتعايش فيها العرب واليهود.
واود الاشارة هنا الى ان وثائق عديدة يمكن الرجوع اليها - وهي متوفرة تظهر بجلاء ان خلافا قد نشأ في الاوساط السياسية الفلسطينية حين ذلك حول هذه القضية وان بدت قد صدرت ووزعت على نطاق واسع من قبل عدد من الفصائل تدين وتتهم اصحاب الفكرة بالسعي لولوج حلول سياسية مع الكيان الصهيوني.
ومن هذا المنطلق فان ما اورده ابو غربية لا يمثل بحال من الاحوال توظيفا لحقائق زمنية (اوسلو وسواها) في كتابة مذكراته وانما سجل كشاهد ومشارك ومتابع للحدث واقعة تتصل برؤية جرى الاختلاف بشأنها تتعلق بآفاق الصراع مع العدو.
ومهما يكن من امر ورغم وجود امثلة كثيبرة وبصرف النظر عن النوايا الطيبة - التي - لا اشك فيها - فانه لا يصح نشر ملاحظات نقدية لمذكرات تاريخية على هذا النحو وبخاصة قبل ان تصبح هذه المذكرات في متناول القارىء وهو ما لم يحصل حتى الآن!!