كتاب

نقاط على شريط طويل

في اربعينيات القرن الماضي والعالم العربي يمور بالأحداث السياسية بعد الحرب العالمية الثانية وقبيل حرب فلسطين ١٩٤٨ كنا بلا جريدة يومية اللهم إلا تلك التي قد تأتي من يافا وقد لا تأتي! أما الصحف الأسبوعية المصرية لا سواها فهي التي كانت رائجة في عمان ومنها عرفنا -كطلاب جادّين - مجلة «الرسالة» ورئيس تحريرها أحمد حسن الزيات ‏الذي لم تستهوني لغته القديمة المقعرة بجفافها، وما ان بدأنا نظفر بمجلة «آخر ساعة» وكان يحررها محمد التابعي الأستاذ الأول للصحافة المصرية الحديثة آنذاك في نظري حتى صرنا نتخاطفها لنستمتع بأسلوبه البسيط الرشيق ‏ونعجب بجرأته وهو يباهي بان اكثر مطالعاته تعود للصحف الفرنسية‏، وحين اكتشفنا «روز اليوسف» كان قد تسلم رايتها الشاب المقتحِم إحسان عبد القدوس فاقتنعنا بما يَكتب عن السياسة والحب وأصبحنا ثوريين مبتدئين..

وفي مصر بعد نكبة ٤٨ وحتى ثورة ٥٢ عرفنا لأول مرة، وقد أصبحنا طلاباً جامعيين، أهمية الحياة البرلمانية في التغيير من أجل اقامة مجتمع حر جديد ‏أكثر قدرةً على تحقيق العدالة الاجتماعية، وشاهدنا على ارض الواقع كيف تتنافس الأحزاب ‏فينجح حزب الوفد الاكثر شعبيةً متجاوزاً الرجعية والنظام واعوان السفارات ليشكل الحكومة ويلغي المعاهدة ‏مع بريطانيا ويطالبها بجلاء قواتها فيجن جنونها وتتآمر مع الملك فاروق لنشهد بعيون دامعة القاهرةَ الجميلة تُحرق يوم ٢٦ يناير ١٩٥٢ كي يطاح بالديمقراطية ويُطرد النحاس باشا زعيم الاغلبية ويُحل البرلمان. ويؤتى بأحزاب الأقلية لتشكيل الحكومة ‏فيفشل الواحد تلو الاخر في مواجهة غليان الجماهير الغاضبة وبعد ستة اشهر تنفجر ثورة ٢٣ يوليو وتخرج الصحف من ظلام الحكم العرفي منددةً بالاستعمار واذنابه فاضحةً الدور الانتهازي الجديد للاستعمار الأميركي وأدواته في مصر وعلى رأسها صحافة الاثارة ممثلة بـ«أخبار اليوم» ويملكها بالوكالة التوأمان علي ومصطفى أمين!

ومن هذه النقطة الفارقة في قلب العروبة انطلقت اميركا وقد استشعرت الخطر على مصالحها وعلى حليفتها الاستراتيجية اسرائيل تدلق علينا باسم الديمقراطية الغربية كماً كبيراً من معارفها وعلومها ممزوجة بأموالها ومخابراتها وتغدق على عملاء المستقبل الذين عرفناهم فيما بعد واحداً واحداً ببعثاتٍ تأهيلية إلى جامعاتها، وتنشر زيفها الإعلامي لتغسل به ادمغة مجتمعات ارهقتها الإمبراطوريتان الذاهبتان ‏لكن ثقافةً تقدمية شجاعة قامت في وجه ذلك لتطلق الوعي السياسي والاجتماعي وتفتح النوافذ على شعوب العالم..

هنا استسمحكم كي أوقف شريط القرن الماضي لاستمع لنعوم تشومسكي بما له علاقة امتداد بشريط القرن الجديد فيصف الديمقراطية الاميركية بالهشة في مقابلته قبل أيام على موقع تروث آوت ويعزو ذلك إلى المحافظين الجدد يوم بدأ يعبث بها المحافظون الجدد في عهد الرئيس ريغان وتحالفه الشيطاني اقتصادياً وسياسياً مع مارغريت تاتشر في بريطانيا حتى وصلت أخيراً لحدود كارثية في عهد الرئيس ترمب الذي قد يجازف بارتكاب حماقات في اللحظة الأخيرة قبل رحيله!

‏وبعد.. هل من عودة لشريط الذكريات الطويل؟ لا مناص فما يزال في الجعبة الكثير.