«صرخات أم مكلومة تعلوعلى صوت الباعة الجائلين في وسط البلد بعد أن اكتشفت للتوأن فلذة كبدها قد خُطِفَ في غفلةٍ منها» مشهد عاشه كثيرون منا ليضاف الى واحدة من ماّسي ظاهرة خطف الأطفال التي تنامت مؤخراً في كل بلاد العالم، وعلى صفحات مواقع التواصل الإجتماعي لا زلنا نستمع ونشاهد يومياً العديد من هذه الحوادث، ومن خلال الحوارات التي تجريها الفضائيات مع أهالي المخطوفين يلمس المشاهد أن الخاطفين قد وضعوا سيناريو مدروس وفي غاية الدقة لتنفيذ عملية الخطف يفوق وللأسف سيناريو معظم الأفلام العربية التي تناولت هذه الظاهرة ليضعنا في مواجهة ومساّلة أخرى مع السينما العربية ومدى تأثيرها في تناول هذه القضية.
خطفوني الغجر..
منذ لحظة الشروع في كتابة هذا الموضوع وتقييم دور السينما من حيث تناولها لظاهرة خطف الأطفال، كان أول ما تقافز للذهن مشهد للفنانة فيروز من فيلم بنت الحارس إنتاج 1968، وهي تغني لإبنتها ريما وهي في المهد، وفي واحدة من أجمل أغاني هدهدة الطفل:
«يا بياع العنب والعنبية
قولولوا لأمي قول لبيِّي
خطفوني الغجر من تحت خيمة مجدليه ».
فلهذه الأغنية حكاية قديمة وقعت أحداثها في مدينة معلولا السورية وتروي قصة شهيرة لفتاة في عمر عشر سنوات خطفها الغجر من بين أهلها واصبحت هذه الواقعة من الموروث الشعبي يرددها في الحكايا والأغاني، وهذه الحادثة سبق ودوَّنها الأستاذ جورج رزق الله وصاغها غناءً الأخوان عاصي ومنصور الرحباني، وتصنيف الغجر كخاطفي اطفال تجاوز البلاد العربية إلى كل الدول الأوروبية لدرجة أن مناهج تعليم الأطفال في بعض الدول الأوروبية تحذر الصغار من خلال القصة والقصيدة الشعرية من اللعب مع الغجر في الغابة.
أراء..
البعض ينفي هذه التهمة عن الغجر، ويشير الكاتب جان بول كليبر في كتابه (الغجر) أن هذه التهمة مردها أنهم الحلقة الأضعف في المجتمع الذي يقيمون فيه، وضطرار السلطات للإستجابة لغضب الجماهير من السكان الأصليين لما يوجهونه من تهم غير ثابتة للغجر كخطف الأطفال وانتهاك الأعراض وأكل لحوم البشر، ويعيد أخرون سبب ذلك للفقر والبؤس والحرمان من التعليم الذي تعيشه هذه القبائل، ولايعود للأصل أو العرق بدليل أن أحداثاً كثيرة من خطف الصغار تحصل يومياً في المجتمعات المدنية والمتحضرة في دول عديدة وعلى مرأى من العالم، ففي أميركا وعلى سبيل المثال يُسجل سنوياً ما لا يقل عن (800000) ألف حالة اختطاف.
السينما المصرية وفي أعمال عديدة رسخت سمة الخطف كواحدة من عادات وميول الغجر دون ابداء الأسباب الداعية لذلك والتي يعزوها بعض الباحثين في علم الإجتماع أن بشرتهم داكنة فيلجأون لخطف الأولاد والفتيات خاصة من أعراق أخرى لما يمتازون به بشرة بيضاء وعيون ملونة بهدف تشغيل الفتيات بالغناء والرقص وتجارة الجنس بالإضافة للنشل والتسول، وفي حالات أخرى بهدف الإبتزاز وطلب فدية.
تكرار..
الأفلام التي سلطت الضوء على خطف الفتيات على أيدي الغجر بدأت مع السينما الصامتة في مصر، وبفيلم (سعاد الغجرية) للمخرج جاك شولتز إنتاج عام 1927، قام بدور البطولة فردوس حسن وعبد العزيز خليل وأمينة رزق، ويستعرض الفيلم قصة الطفلة سعاد التي خطفها الغجر في اّسيا الصغرى وأحضروها لمصر لتعيش وسط قبيلتهم ويلحقونها للعمل في السيرك.
خطف الغجر للفتيات الصغيرات تكرر في سيناريو مجموعة من الأفلام أيضاً مثل: وهيبة ملكة الغجر إنتاج 1951، وفيلم الغجرية إخراج السيد زيادة إنتاج 1960 ويؤدي الفنان محمود المليجي دور أبودومة الغجري الذي يسرق طفلة من ذويها ويدربها على السرقة وضرب الودع،و أدت هذا الدور الفنانة هدى سلطان والتي تخصصت في أداء شخصية الغجرية في أكثر من عمل سينمائي.
طحيمر العِفِشْ..
المؤلف السينمائي وحيد حامد وبرؤية المخرج سمير سيف أعادا تسليط الضوء على قضية خطف الأطفال ودور الغجر في ذلك ضمن أحداث فيلم (اّخر الرجال المحترمين)،ويرتكز سيناريو الفيلم في البحث عن طفلة مخطوفة، وفي أحد المشاهد يداهم رجال الشرطة مقر تجمع الغجر بحثاً عن الطفلة، ويتم القاء القبض على زعيم عصابة الغجر (طحيمر العِفِشْ) وأداه باقتدار الفنان زين العشماوي.
ما يميِّز هذا العمل أنه يأخذ المشاهد لظاهرة خطف الأطفال في المجتمعات الأخرى ليؤكد أن تهمة الخطف لاترتبط بعالم الغجر فقط بل في المجتمعات المدنية والأرستقراطية أيضاً، إذ يظهرمن خلال تتابع الأحداث أن الخاطفة الحقيقية هنا ثريا (بوسي) وهي سيدة أرستقراطية توفيت ابنتها الوحيدة وعاشت أزمة نفسية على إثرها جعلها وبدون وعي منها تلجأ لخطف طفلة في حديقة الحيوانات أثناء تواجد الأخيرة ضمن رحلة لمدرسة أطفال قادمة من الصعيد، ويبقى هذا الفيلم من أهم الأعمال التي ناقشت ظاهرة سرقة الأطفال،لعل ما يؤكد ذلك العودة للأعمال التي ناقشت هذه القضية قبل وبعد عام 1984 تاريخ إنتاج هذا العمل السينمائي المتميز.
الشيطان الصغير..
صحوة ضمير الخاطفين في نهاية أحداث الفيلم ومعاودتهم تسليم الصبية المخطوفين لذويهم سيناريو تكرر بأكثر من عمل سينمائي وتعتبر هذه الخطوة نقطة ضعف في تناول الموضوع دون البحث عن أسباب هذه الظاهرة وكيفية معالجتها، ونتطرق هنا لفيلمين وقعا في هذه الإشكالية وهما للمخرج كمال الشيخ، الأول فيلم (ملاك وشيطان) 1960، وأدت به إيمان ذو الفقار دورالطفلة المخطوفة سوسن، وفي نهاية الفيلم يصحو ضمير عزت أحد أفراد العصابة (رشدي أباظة) ويقرر تسليمها لوالديها (مريم فخر الدين وصلاح ذو الفقار) ويدفع حياته ثمناً لهذا الموقف.
الفيلم الثاني (الشيطان الصغير) 1963،ففي نهاية الأحداث يقرر عليوة (حسن يوسف) إعادة الطفل عصام (محمد يحيى) لأهله ويُقتل جراء ذلك على يد حسنين (صلاح منصور) الذي يسعى لتصفية عصام كونه الشاهد الوحيد على جريمة قتل ارتكبها حسنين.
صراع طبقي..
أحداث كثيرة وقعت في الحقيقة تتعلق بسرقة الأطفال دافعها رغبة امرأة للإنجاب ما يدفعها للإدعاء بأنها حامل ومن ثم تنفذ المخطط الذي تسعى إليه، ومن الأعمال التي تطرقت لهذه القضية فيلم (رنة الخلخال) 1955 وعلى يد لواحظ (برلنتي عبد الحميد) بمعاونة القابلة أم بدوي (نجمة ابراهيم) التي تستغل لحظة ولادة فضيلة (مريم فخر الدين) وتبدل مولودها بطفل متوفي حديثاً وتنسب المولود الحي للواحظ مقابل مبلغاً من المال، وتنتهي الأحداث باعتراف أم بدوي بالحقيقة قبل أن تفارق الحياة بعد مقتلها على يد الخاطفة لواحظ.
اسباب أخرى تدفع للخطف منها الصراع الطبقي الخفي بين الأثرياء والفقراء، فيلم (بطل للنهاية) 1963 مثال حي على ذلك بتجسيده لهذا الصراع من خلال شخصية حافظ أمين (محمود المليجي) رئيس جمعية خيرية لرعاية الأطفال وهي غطاء لأعمال الخطف التي يقوم بها،فمن خلالها يتعرف على الأثرياء ليقوم بخطف أبنائهم وبعدها يساومهم على دفع الفدية مقابل إعادتهم لأسرهم، ويتم الإستعانة بأبراهيم (فريد شوقي) أحد المجرمين السابقين الذي ينضم للعصابة لكشفها في النهاية وحسب الأسلوب الذي عرف به حسام الدين مصطفى مخرج الفيلم.
منحى درامي..
نسبة كبيرة من هذه الأعمال تأخذ منحى درامي يعتمد على أن يكون الأبن (الأبنة) المخطوف وحيد والديه بهدف تعظيم الحدث وزيادة تعاطف المشاهد مع الأحداث وتغليب عنصر الإثارة والتشويق بما يتخلله من مشاهد المطاردات والمعارك بين البطل وأفراد العصابة،و الأمثلة كثيرة بهذا الصدد ومنها: فيلم (الوحش) 1954 لأنور وجدي وسميحة أيوب ومحمود المليجي، و(شياطين للأبد) 1976، (المشبوه) 1981 و(النمر والأنثى) 1987 للفنان عادل إمام،و(عيش الغراب) 1997 للنجم نور الشريف.
في أرشيف السينما المصرية مجموعة من الأعمال التي تتطرق لظاهرة الخطف لأسباب عائلية ويكون الجاني أحد الوالدين نتيجة خلافات عائلية أو بعض الأقارب طمعاً بالميراث، ومن الأمثلة على ذلك: شاطيء الذكريات إنتاج 1955، وحارة برجوان 1989.
سكر..
توظيف الأطفال المخطوفين للقيام بأعمال التسول والسرقة وتهريب المخدرات كان واحداً من الأهداف التي يسعى لها نسبة كبيرة من الخاطفين، الكاتبة ماجدة خيرالله قدمت هذه الرؤيا عبر سيناريو فيلم العفاريت إنتاج 1990 للمخرج حسام الدين مصطفى وتمثيل مديحة كامل بدور المذيعة (ماما كريمة)، والدة الطفلة هديل (بيليه) وتشارك الأخيرة بأعمال استعراضية ضمن سياق الأحداث مع بطل الفيلم عمرو دياب، وأبدعت الفنانة نعيمة الصغيَّرْ بدور (الكتعة) التي تدير عصابة تستخدم الصبية لممارسة النشل وترويج المخدرات، ونهاية الفيلم كانت منطقية على عكس ما سبق من أغلب الأعمال إذ لا تستطيع كريمة تحديد ابنتها الحقيقية هل هي بيليه أم لوزة (سماح عاطف)، والغاية الإنسانية هنا أن تقوم الأم برعاية الطفلتين بنفس المستوى من الحنان دون تفرقة ما بينهما، يجدر التنويه أن (العفاريت) يتقاطع في بعض أحداثه مع فيلم (بص شوف سكر بتعمل إيه) إنتاج 1975، وقامت ميرفت العايدي بدور الطفلة المخطوفة (سكر)، وتشارك كذلك بأعمال إستعراضية في التلفزيون ووالدتها بالفيلم فاطمة مظهر (ماما سميرة) وتقوم بدور مذيعة تلفزيونية أيضاً.
الغابة..
في السنوات الأخيرة ازدادت حالات خطف الأطفال بهدف الإتجار بأعضائهم وتم إنتاج بعض الأفلام التي تتناول هذه القضية الخطيرة ومن بينها: الغابة إنتاج 2008، لريهام عبد الغفور واحمد عزمي وباسم سمرة ومن إخراج أحمد عاطف، وفيلم (القط) 2014 تمثيل عمرو واكد وفاروق الفيشاوي وسلمى ياقوت وإخراج ابراهيم البطوط، والفيلم التونسي (بيك نعيش) للمخرج مهدي البرصاوي إنتاج 2019.
تحدث حالات الخطف في أغلب الأحوال في الأماكن المزدحمة كالأسواق الشعبية والموالد وهذا ما ورد في أحداث فيلم (المولد) للفنان عادل إمام في شخصية هيما ويخطف على يد علي الأعرج (عبدالله فرغلي)، والجدير بالذكر أن مؤلف الفيلم محمد جلال عبد القوي توقف عن الكتابة بعد هذا العمل كما صرح لاعتراضه على النهاية التي فرضها المخرج ما يخالف القصة الأصلية تجعل هيما يعود لممارسة حياته الطبيعية دون عقاب قانوني رادع رغم الجرائم التي ارتكبها.
شياطين الشرطة..
خطف الأطفال الرضع من المستشفيات واحدة من القضايا المرتبطة بهذه الظاهرة ولم يتم تسليط الضوء عليها بشكل مدروس أيضاً،و إنما وردت في سياق الأفلام ذات الطابع البوليسي والتجاري كفيلم (شياطين الشرطة) 1992 لسماح أنور وأثار الحكيم وحنان شوقي.
يشير نسبة كبيرة من الباحثين والمهتمين لتقصير السينما في هذا المجال، ولم تركز على أهم الأسباب التي ساهمت بازدياد حالات الخطف مثل إهمال الأمهات، والخلل في العلاقة بين الوالدين والأبناء، وغياب التنسيق بين المؤسسات المعنية، ففي العديد من الدول العربية لا يتم تحرير محضر خطف إلا بعد مضي 24 ساعة على الحادثة،عندها يكون الجاني في مكان بعيد واّمن خارج المحافظة أو الدولة بمعنى (اللي ضرب ضرب.. واللي هرب هرب).
فرصة أخيرة
ومع ذلك يبقى أمام السينما العربية فرصة كبيرة لإثراء الشاشة بالعديد من قضايا الدراما الإنسانية والمتمثلة بتعاون الناس مع أهل الضحية بالكشف عن الجاني وإعادة المخطوف لأهله وهذا ماتؤكده الأحداث اليومية ‘ فعلى مسرح الحياة الكثير من المواقف التي تثري فنون الدراما والتي قد تريحنا من سذاجة العديد من الأعمال السينمائية الحالية، ولكن من يقرأ، ومن يسمع؟!.