الاعتذار في العادة سلوك حضاري يمارسه الانسان السويّ حين يجد نفسه مخطئاً مع غيره لكن الدول لا تفعل ذلك لأسباب كثيرة حتى لو وجد عقلاؤها أنها مخطئة حيال دولة أخرى أو شعب آخر وأمامنا مثل حديث نادر جرى منذ أيام إذ وافقت فرنسا بعد طول مماطلة أن تعتذر عن إحدى جرائم تاريخها الأسود في الجزائر وتعيد جثامين رفات الجنود الجزائريين الذين قتلتهم ذات يوم ودفنتهم في أرضها وهو اعتذار كالذي اضطرت له على مضض بضعة دول استعمارية اما أكثرها فما زالت تتهرب بحجج مختلفة كالدول الأوروبية (حتى بلجيكا!) التي نهبت القارة الافريقية ثم باعت ابناءها وبناتها عبيداً للأميركيين، وكتركيا حيال مجزرة الأرمن، واليابان تجاه كوريا واستخدام نسائها كبغايا مرافقات لجيشها..!
يخوض المحللون معركةً جدلية متشعبة حول معنى الاعتذار ونتائجه وآثاره وتبعاته، وكيف يمكن لحكومة ما في الوقت الحاضر أن تسترضي بلداً ما بالاعتذارعن خطايا ارتكبتها بحقه حكومة سابقة قبل عشرات أو مئات السنين وما جدوى هذا الاعتذار بعد فوات الأوان مثلاً بالنسبة للغارتين الذريتين الهائلتين على هيروشيما وناغازاكي وقد ارتكبته أميركا هذه الجريمة الفظيعة بدم بارد عام ١٩٤٥ بحجة ردع اليابان كي توقف الحرب وتستسلم في الوقت الذي كانت الاتصالات السرية بين الحكومتين قد أوشكت على الوصول إلى نفس النتيجة ؟! وفي حدث عدواني تاريخي آخر مازالت مأساته المروّعة تتكرر أمامنا حتى اليوم منذ انشاء دول القارة الأميركية باغتصاب أراضي السكان الأصليين واضطهادهم حد الإبادة على أيدي الغزاة البيض القادمين من أوروبا في عام ١٤٩٢حين دمر الإسبان امبراطوريتين قديمتين هما الأزتيك (المكسيك الآن) والإنكا (الأرجنتين وتشيلي) واستولى الإنجليز على شمال القارة (الولايات المتحدة وكندا) وما زالوا ممعنين في سياسة التمييز العنصري ولا يفكرون طبعاً بالاعتذار وينكر ترمب في هذه الأيام على السكان الأصليين إزالة تماثيل أولئك المستعمرين المعتدين بدعوى انها جزء من التراث!
وفي تاريخٍ غير موغل في القِدم تعلمناه في المدارس أن جحافل التتار احرقت ودمرت بلاداً منها بلادنا بعدما أفزعت وروّعت شعوبها، فهل من عاقل يطالب الآن بالاعتذار وممن؟
في فلسطين عدوانٌ يزداد شراسةً منذ أكثر من مئة عام واحتلالٌ استيطاني مستمر لا يتوقف جشعه منذ عام ١٩٤٨ وليس في قاموسه كلمة «اعتذار»!! وبالمقارنة المقلوبة تحصل إسرائيل من ألمانيا بعد اعتذارٍ مذلّ عن الهولوكوست على تعويضات مالية سنوية ضخمة.. ربما إلى الأبد!
وبعد.. حتى لو أن الاعتذار موضع جدل فإنه يظل سلوكاً حضاريا مرحبا به بين الحكومات، لكن يا ترى من ذَا الذي يعتذر للشعوب التي عانت من حكامها الطغاة بعد ان اذاقوها الأمرّين بالسجون والمعتقلات والتعذيب حد القتل ثم غابوا بالموت او الهرب واللجوء لدول أجنبية؟! ومن يحاسب أو يعاتب على الأقل من لا يزالون حتى اليوم يشيدون بذكرهم؟!
مواضيع ذات صلة