سامح المحاريق
يتم تداول بعض الأقاويل في الجلسات الخاصة حول نماذج لدول لا تقوم بالاقتراض وتبدأ نظريات كثيرة حول الإنتاج والاكتفاء في الصعود مع أن الرجوع لدفاتر المديونية الخاصة بهذه الدول تبين أنها كانت تقوم بالاقتراض وأنها كثيراً ما كانت تصل إلى حدود غير آمنة في بند الدين الخارجي، وعملياً لا يوجد نظام اقتصادي بعيد عن الدين، لا كوبا ولا سوريا، ومن المفيد الإشارة إلى أن روسيا عبرت طريقاً صعباً في ربع قرن من الزمن لسداد الديون السوفييتية.
لماذا تقترض الدول؟ الإجابة ليست بالبسيطة على أية حال، ولكن قصة الاقتراض العالمي بدأت مع حقبة جديدة من دور الدولة دخلت فيها سباقاً مستمراً مع الزمن لإنشاء بنية تحتية تتناسب مع أنماط المعيشة التي أنتجتها الحياة الحديثة، ومنذ تأسيس المملكة والسعي إلى بناء دولة حديثة في إقليم كان يفتقر للرعاية من السلف العثماني، فالمديونية الأردنية قصة على شيء من التعقيد.
كامل القصة لا تغيب عن وزير المالية محمد العسعس الذي يجد نفسه في ظرف صعب، وربما كان الأكثر صعوبة هو أن المديونية بتركيبتها الراهنة تخالف قناعاته الشخصية بوصفه اقتصادياً، ذلك أن الأردن ومنذ بداية الربيع العربي يقترض لتغطية المصاريف الجارية، ويكاد يجمد أنشطة الإنفاق الرأسمالي، بمعنى أنه لا يضيف أصولاً إنتاجية أو يدعم جاذبيته للاستثمار وهو الأمر الذي سيوفر ايرادات مستقبلية ويزيد من منعة الاقتصاد الأردني.
يجد المواطن نفسه في حالة من الاستغراب عندما يعرب الوزير عن سعادته بإنجاز طرح سندات جديدة بمبلغ 1.75 مليار دولار أميركي، فما الذي يمكن أن يدفعه لهذه النبرة المتفائلة والمديونية تزيد باطراد؟
أن تقترض الدولة أمر اعتيادي وضروري، ولكن تفاصيل الاقتراض، وسنعود لتعبير التفاصيل لاحقاً، تعتبر مؤشراً على مجموعة من التوقعات المستقبلية خاصة أن السداد هو جزء من المستقبل، ومن أهمها قناعة المقرضين بالتوقعات الإيجابية في المستقبل، فالسندات لم تذهب إلى دول ذات مصالح سياسية، ولكن اقتنتها بنوك استثمارية كبرى، وبأسعار أفضل من السندات التي قامت دول أخرى في الإقليم بتسويقها، والسعر يرتبط جذرياً بالمخاطرة، فهل يرى المستثمرون شيئاً لا نراه في الأردن؟
الاستقبال العاطفي لمقولة الوزير «الباقي تفاصيل» حاضرة في صورة بطولة لم يكن يسعى لها أو يتوقعها، وهو الأمر الذي جعل الجميع يبتعد عن التفكير في المعنى الاقتصادي للتعبير، وتكاد هذه العبارة تنقلب على وزارة المالية اليوم وهي في وضع ضاغط وغير شعبي خاصة من موظفي القطاع العام المتأثرين سلباً بإجراءاتها التقشفية، لأن أحداً ببساطة لا يمتلك القدرة على الارتحال إلى الزمن الموازي ليقيس أثر البدائل في حالة عدم تطبيق الحظر الشامل.
تجاوزنا أم لم نتجاوز الكورونا موضوع على قدر كبير من الأهمية، ولكن لا يجب أن يطغى على مواضيع أخرى مثل الالتزامات المالية المترتبة على الأردن، ومنها سندات تستحق قريباً سيتم سدادها من حصيلة السندات الجديدة، مع نصف مليار دولار ستوجه لسداد متأخرات الحكومة، وهو الأمر الذي من شأنه أن يحرك السوق المحلي ولو بصورة ضئيلة، ولكن المحصلة ستبقى محدودة، فالأردن يحتاج إلى تمويل مستمر من أجل العودة إلى الانفاق الرأسمالي الذي يحرك السوق ويدفع القطاع الخاص إلى التوسع وإلى تمويل القطاع العام.
عند هذه النقطة يظهر الهرم المقلوب، فالمفروض أن تكون السياسة النقدية تعبيراً عن الوضع المالي الذي يترجم الحال الاقتصادي، ويمكن أن تستخدم هذه الأدوات بطريقة معكوسة من وقت إلى آخر لغايات التصحيح أو تعديل المسار، فالأموال التي ستضخها الحكومة من حصيلة السندات ستنعكس إيجابياً على القطاع الخاص وعلى موظفيه بل وسيعود منها جزء للحكومة من خلال مشترياته الأخرى، ولكن إلى متى يمكن أن تستمر هذه السياسة في العمل؟
لا نبخس وزارة المالية حقها وجهودها للسيطرة على الموقف في الجزء الذي يخصها، ولكن ما ألزم الوزير نفسه عندما تحدث عن خلفيته كاقتصادي ورفضه الاكتفاء بدور أمين الصندوق يدفع للسؤال عن النمو والتنمية والتشغيل وهذه أسئلة اقتصادية في جوهرها، ويعلم الوزير جيداً أن الحكومة لم تتقدم كثيراً على مستوى استقطاب الاستثمارات وأنها تستهلك ودون طائل يذكر جهود البنك المركزي ووزارة المالية بمختلف أذرعها، ومؤخراً صندوق الضمان الاجتماعي، وأن تعويلها الرئيسي على الحلول النقدية والمالية وهي مجرد مضادات حيوية لا يمكن أن تحول دون الإجراء الجراحي في النهاية، ومتى ننتقل إلى الفعل بعد إدمان الإقامة في رد الفعل.