كتاب

الأردن الحقيقي هو الذي يحتضن فيه الشمال الجنوب

... في مستشفى الكرك الحكومي، الكل يعرف طارق عباسي جراح العظام.... والذي حاول مرارا أن يلغي نقله للكرك، عندما ابتعثته وزارة الصحة كي يعمل في مشفاها هناك.. ولكن بعد (5) سنوات من العمل في المحافظة، ألغى نقله عدة مرات.. لابل رفضه، لأنه أحب الناس والمشفى وأحب الجنوب بكل تفاصيله... وقرر أن يستقر هناك.


هذا الأسبوع وفي أول يوم من أيام العيد، كان متجها لمستشفى الكرك الحكومي، من أجل إجراء عمليات عظام، وكانت الطريق خالية تماما بسب الحظر الشامل... والساعة لم تتجاوز التاسعة صباحا، فوجئ بغبار على الطريق قريبا من جسر (الدبة).. وتوقف لاستطلاع الأمر.. فوجد سيارة، منقلبة عدة مرات، ومسحوقة تماما.. ومن الزجاج الخلفي خرجت يد السائق مغطاة بالدماء.

يقول الدكتور طارق، سحبت جسد الرجل بعناية وهدوء، ثم طلبت الدفاع المدني، وقمت بإجراء فحص له، وقد تبين لي أنه مقدم في الأمن العام، وكان متجها لعمله في شرطة الكرك... ولكن انفجار عجل السيارة الأمامي أدى ربما لانقلابها ..- يكمل الدكتور طارق- .. في مثل هذه الحالات تخاف من سحب الجسد بطريقة غير صحيحة لأن الأمر قد يؤدي إلى الشلل (لاقدر الله ) ... والأهم من ذلك كله أني طلبت من الدفاع المدني، أن يحظروا معهم (النقالة الصلبة) المتخصصة، بحمل المصابين بكسور.. أو الذين تخشى عليهم من إصابات العمود الفقري، وفعلا حين أخبرت الدفاع المدني باسمي ومهنتي فاستجابوا على الفور , وكانت سيارة الإسعاف في الموقع، خلال (15) دقيقة .

بعد ذلك أخبرني الدكتور طارق، أنه تحدث مع المصاب وطمأنه، بأن الإصابات من الفحص الأولي ليست بالخطرة، وأن قدرته على تحريك قدميه توحي، بأنه لاخوف عليه.. وبقي معه في سيارة الإسعاف حتى أوصله للمستشفى العسكري، وسلمه هناك للإطباء المختصين ..

صباح يوم العيد كانت السيارات التي تعبر من طريق الكرك قليلة جدا، وربما لو لم ينتبه هذا الطبيب الشهم، والذي أجرى جراحات كثيرة لضحايا الحوادث المرورية هناك، ربما لو لم ينتبه... لبقي المصاب في حالة نزف، وربما تطور الأمر إلى ما لاتحمد عقباه ..

المقدم المصاب في طور التعافي الان، والدكتور طارق عاد لإجراء العمليات في مستشفى الكرك الحكومي، والقصة ليست بطولة مواطن ... ولكنها قصة مقدم أمن عام من إربد الحبيبة .. وطبيب عظام من الشمال الحبيب أيضا، كان قدرهم أن يخدموا في الجنوب.. وأن يسعف أحدهم الاخر، وينقذه ..

هذه هي الكوادر الطبية الحقيقية، وهؤلاء هم رجال الأمن الشجعان... فقصة الخدمة لديهم وقصة الضمير والتربية، هي الأساس.. وأجزم أن طبيب شهم مثل الدكتور طارق عباسي ..لايحتاج لبطولات الشاشات ولا الإضاءة الخاصة بها، ولا يحتاج كلاما مكسرا وهابطا نحويا من مذيعة.. تظهر لأول مرة، يكفيه أن تراب الجنوب يحبه، والناس هنالك تحتضنه بعيونها .. ويكفيه راحة الضمير، فهو ينقذ الناس ليس لأنه طبيب عظام، بل لأنه ابن أسرة أردنية علمته الوفاء للتراب قبل الوفاء للمهنة..

أما مقدم الأمن العام، فلا كورونا ولا الظروف تسعفني لزيارة الكرك، ولو كانت تسعف لزرته في المستشفى العسكري هناك وقبلته وقدمت له التهنئة بالسلامة، ولقمت بغسل كفيه والقدمين.. بورد من الجنوب أحن من الغيم وأنقى من المسك..

الأردن الحقيقي هو الأردن الذي يحتضن فيه الشمال الجنوب، ويقبل فيه الجنوب شماله.. ويدفع أولاد الشمال من دمهم، وتعبهم لقاء أن يخدموا وطنا أحبوه وأحبهم ...

Abdelhadi18@yahoo.com