ثقافة وفنون

قصّة حيّ بن يقظان.. المعرفة تبدأ من اكتشاف الذات

قصّة حيّ بن يقظان لابن طفيل (1105-1185م) قصة عالمية انطلقت من الفكر الأندلسي وهو في أوجه، وتركت أثراً خالداً في الفلسفة والأدب العالميين. تُرجم الكتاب الذي اشتمل على القصة إلى اللاتينية عام 1671م بينما ظهرت أول ترجمة إنجليزية عام 1708م، ويُعتقد أنها ألهمت دانيال ديفو في كتابه 'روبنسون كروزو'، كما ألهمت الفيلسوف الإنجليزي جون لوك بفكرة 'العقل يولد صفحة بيضاء' التي نشرها في كتابه 'مبحث حول الفهم الإنساني' عام 1690م.

تبدأ قصة حيّ بن يقظان بوصول طفل رضيع بصندوق خشبي إلى جزيرة مهجورة )وفي رواية أخرى تولّد حيّ بن يقظان من بطن الأرض تولّداً طبيعياً)، فوجدته ظبية فقدت رضيعها مؤخراً، ولمّا وَجدت الطفل يبكي عطفت عليه وتحرّكت غريزة الأمومة لديها فأرضعته واعتنت به حتى كَبُر وتعلم لغتها، فأخذ من خبراتها في الحياة وفهم إيماءاتها ومشاعرها. وعندما نفقت الظبية حزن حزناً شديداً وراقبها وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة، فتفكّر في الحياة والنفس والطبيعة والخلود وما بعد الموت، وبدأ يستطلع الكون من حوله: ما هو موجود منه فيزيائياً وما هو كامن من وراء الوجود، أي ما هو ميتافيزيقي يتجاوز الوجود الملموس إلى ما ورائه، والذي قاده إليه خياله وتأملاته وممارساته الذهنية والفلسفية.

وعبر تأملاته وتجاربه الشخصية توصّل حيّ بن يقظان إلى ضرورة وجود إله واحد قوي قهّار قادر على السيطرة على الطبيعة، وأنه هو خالقه لا محالة، واستدلّ عقلياً أنه لا بد كذلك أن يكون هذا الإله أرفع وأسمى من الجسد الفاني وإلا هَلِك، فسعى إلى البحث عن وسائل للتقرب إلى الله خالقه، كالتأمل في ذات الله وعظمته وفهم صفاته، وسعى للوصول إلى الاتحاد الوثيق بالله (تعبير عن المذهب الإشراقي)، وحاول ممارسة التصوّف لفصل عقله عن العالم المادي، وذلك يذكّرنا بمثال ابن سينا حول 'الرجل الطائر' وفلسفة ديكارت في فكرة 'أنا أفكر إذاً أنا موجود' في ما بعد، فضلاً عن فكرة الفيلسوف المتوحّد عند ابن سينا وابن باجّه.

وذات يوم عثر حيّ بن يقظان على إنسان مثله يتجوّل في الجزيرة, فتتبعه وشاهده وهو يصلّي، وظل يراقب تصرفاته إلى أن تشجع للكشف عن نفسه، وما لبث أن تعرّف إليه وتعلّم منه اللغة واستأنس وجوده, وكان اسمه 'آسال'. وبفعل الحوارات التي شرعت تقوم بينهما أدرك حيّ بن يقظان أن معتقدات هذا الرجل 'آسال' التي تعلّمها في مدينته من الكتب السماوية كانت شبيهة جداً بما توصّل إليه هو نفسه عبر تجاربه الشخصية وتأملاته الخاصة في الكون والطبيعة والحياة، ومن خلال عقله فقط دون الرجوع إلى أي كتب أو مصادر دينية.

ثم تنتقل القصة الى مرحلة جديدة تتمثّل في أنّه عندما وصلت سفينة إلى الجزيرة ذات يوم، نقلتهما هو وآسال إلى أقرب مدينة متحضرة, وهناك اكتشف الحضارة وشاهد كيف ينشغل الناس عن دينهم للتمتع بملذات الحياة الدنيا، فحاول ردّهم إلى رشدهم ففشل، وأدرك أن الحقائق العليا التي تتجاوز العالم المادي لا يدرك كنهها عامّة الناس من المكبّلين بأغلال الحواس (فكرة كهف أفلاطون)، فخاطبهم بلغتهم وبقوالب الأديان المنزلة، ولكن من غير جدوى. لذلك همّ عائداً إلى جزيرته ومات فيها.

لخّص ابن طفيل فلسفته في قصة حيّ بن يقظان على لسان شخوص من مخيّلته، إذ استطاع أن ُيعبّر عن همومه وأفكاره بوضوح أكبر ومن دون مواربة، ومن خلال بيان دقيق وأسلوب سردي فريد، واستطاع إبراز أهمية العقل في الوصول إلى الحقائق الكلية من دون عون من أحد أو استعانة بأي كتاب, فقط من خلال الفطرة وعبر العقل الاستدلالي والتأمل. فقد أراد أن يوصل الى الناس فكرة أن الفلسفة والدين لا يتنازعان، بل هما متفقان على النحو الذي يتفق فيه العقل مع النقل أو الشريعة.

ويمكننا القول إنه رغماً من أنّ قصة حي بن يقظان لها أصول قديمة, فبعضهم يعزوها إلى الحضارة السومرية أو الى الإغريق أو غيرهم، ولكن مضمون الرسالة يظل فريداً من نوعه من حيث أنه اكتشاف للذات, وهي مرحلة أولى ضرورية للمعرفة لا يجوز تجاوزها, ثم تليها مرحلة ثانية مفادها الاعتماد على العقل لتحصيل المعارف. وتذكّرنا هذه المرحلة بأعمال الفيلسوف الفرنسي ديكارت ومنهجيته في تحصيل المعرفة اليقينية, كما تذكّرنا بعقلانية ابن رشد وتقديمه للعقل عل النقل, وهي الفلسفة الرشدية التي أضحت من القواعد المعرفية التي أرست عليها الحضارة الأوروبية دعائمها وأنهت الهيمنة الكنسية على الفكر الأوروبي بصورة تدرّجية.

ختاماَ، تحتوي قصة حيّ بن يقظان هذه على أغلب عناصر الرواية، لذلك نميل الى مخالفة الرأي العام السائد بأن الرواية العربية لم تظهر إلا بعد العصور الكولونيالية، وأن الرواية في التراث العربي الإسلامي اقتصرت على 'ألف ليلة وليلة'.