يحمل إلينا شهر رمضان المبارك في كل عام جملة من أجمل الأعمال الدرامية والقصص التاريخية المصورة التي تحاكي الزمن الماضي ويروي مواقف الأبطال الذين كان لهم بصمة واضحة نحو مجتمعاتهم وأوطانهم. وفي هذا العام يبث على الفضائيات مسلسل بعنوان "حارس القدس" كناية عن شخصية المثلث الرحمات المطران إيلاريون كبوجي للمخرج باسل الخطيب وكاتب النص حسن يوسف والنجم السوري القدير رشيد عساف الذي يلعب الدور ببراعة واحترافية عالية مع طاقم العمل المميز لتجسيد العمل بأجود نص، وأفضل مشهد، وأسمى قضية.
اليوم مسلسل حارس القدس يستقي من حياة المناضل المقاوم الفلسطيني السوري الأصل المطران كبوجي الفكر القومي العروبي في مقاومة الاحتلال الصهيوني لفلسطين الحبيبة ودعم الشعب الفلسطيني الباسل في تحرير الأرض. ففي بداياته درس المطران كبوجي في دير القديسة آن في القدس قبل أن يسيم كاهنا وهناك كان قد شهد بعينه تفجير فندق الملك داوود حيث أنتابه الكثير من الألم مما رأهُ بعد سقوط العديد من الشهداء والجرحى.
في العام 1962 عين رئيسا عاما للرهبنة الباسيلية الحلبية حيث اختار جورج كبوجي اسم إيلاريون على اسم قديس غزة وأما كبوجي فإنها تعني باللغة السريانية البواب. في العام 1965 أنتخب المطران إيلاريون كبوجي مطراناً للقدس ونائباً بطريركيا عاماً لكنيسة الروم الملكيين الكاثوليك. ومنذ توليه كرسي خدمته ظهرت مواقفه السياسية المناوئة لسلطات الاحتلال. لقد أدرك المطران كبوجي واجباته كمطران تجاه رعيته في التعليم والمساعدة الروحية والانسانية والمشاركة في المناسبات الاجتماعية باعتباره الراعي لأهالي القدس حيث حمل على عاتقه معاناة الشعب الفلسطيني كجزء من مسؤوليته في الدفاع عن فلسطين وتفهم حاجة المقاوميين للسلاح ولم يتوان عن تقديم يد المساعدة والعون لهم، ففي كنيستنا رجال قوميون عروبيون يذكرهم التاريخ لبسالتهم ولا يثنيهم عن قول الحق لومة لائم.
لقد أبرز المطران كبوجي الدور العربي المسيحي في النضال فكان يعمل على تهريب الأسلحة للمقاومين معتمداً على الصلاحية التي يملكها بحرية التنقل بسيارته الخاصة إلى أن ضبطته سلطات الاحتلال في العام 1974 ووجهت إليه عدة إتهامات أبرزها نقل السلاح، واجراء اتصالات مع منظمات معادية، والقيام بأعمال لصالح تنظيم غير شرعي وحكمت عليه اسرائيل بالسجن لمدة أثني عشر عاما وقد تعاطف أهالي القدس مع محاكمته كثيراً وعجت قاعة المحكمة بالمقدسيين الشرفاء. لقد عانى المطران كبوجي الأمرين وهو في السجن من الظروف الرديئة ومنعه من كتاب الصلاة وهذا ما دفع الفاتيكان للتدخل ليخرج المطران كبوجي من السجن بإتفاق مشروط وينص على: أن يُنفى إلى مكان بعيد عن فلسطين، ويوضع تحت الإقامة الجبرية في المنفى وأن لا يعود لبلد عربي مثل سوريا أو لبنان.
إنه رجل بحجم الوطن لقد قالها عدة مرات "أنا أبٌ للفلسطينيين، وسأواصل مسيرتي ولن أستريح حتى تقرع أجراس العودة" لقد كان همه أن يبقى له صفه بالسجن أو خارجه ببقائه المطران الأصيل للقدس وسرعان ما نقض المطران كبوجي الاتفاق المبرم وزار سوريا في العام 1979 تلبية لدعوة الرئيس الراحل ياسر عرفات لافتتاح المؤتمر الوطني الفلسطيني المنعقد في دمشق وبعدها جاب بلدانا كثيرة ضارباً بعرض الحائط إلتزام الكنيسة الكاثوليكية مع إسرائيل ببقائه خارجاً.
إن الجدل اللاهوتي للآباء الكنيسة يقوم على الجهاد في المسيحية وحيث أن جوهر الديانة يقوم على مبدأ المحبة والتسامح وحب الاخر فكيف لها أن تدافع عن وطنها وأبنائها، لقد تخطى كبوجي عظة الكنيسة وخطاب المظاهرة ورغب بشدة أن يعبر عن حبه لأبناء جلدته بطريقة مختلفة جاعلاً من عباءته الكهنوتية درعاً للمقاومة ومن صليبه رمزاً للحياة المشتركة،عربياً أبياً عابراً للطوائف والمذاهب والأديان، ممثلاً لاهوت المقاومة ذلك المنهج والفكر الذي يسبق لاهوت التحرير مستخدماً القوة والبأس لطرد الصهاينة الغزاة كما فعل يسوع في الهيكل معتبراً أن الحرب مع إسرائيل هي حرب وجود لا حرب حدود.
و في إبان الحرب على سوريا أيد المطران كبوجي النظام السوري ولم يرق موقفه للبعض إلا إنه لم يخجل في التعبيرعن موقفه وحبه لوطنه سوريا. إن الأرث الذي صنعه المطران كبوجي لإرث سياسي وديني ووطني بإمتياز نحو العروبة والكنيسة والرجولة لقد عاش مطراناً للقدس ومقاوماً للإحتلال ومناصراً للقضية ذلك هو الرجل الذي ترجل عن صهوة حصانه ورحل إلى ديار النور في الأول من كانون الثاني للعام 2017 حيث دُفن في لبنان بمقابر دير المخلص. ليس غريباً على أساقفتنا هذه المواقف القومية العروبية الأصيلة فما أحوجنا اليوم إلى أساقفة رجال حقيقيين يحملون في قلوبهم أوطانهم وأبناءهم ويسعون لتحسين ظروف معيشتهم ويأخذون الغد أملاً جديداً لرفعة المجتمعات وكرامة الانسان.
Haddad_hossam@hotmail.com