الرأي الثقافي

محور الموت والحياة في رباعيّات الخيّام *

نحن أحياء..

إنّنا لميّتون (1)

فإنّ ما خطر على بال المرء ويخطر من بين المفاهيم كافة هاتان القضّيتان الجليّتان المسلّم بهما ومن البديهيات الأولى؛ بيد أن السّواد الأعظم من البشر يغفل عنهما. هم أحياء, لكنهم لا يعرفون أنّهم أحياء, وهم أحياء غير أنهم لا يعيشون الحياة؛ وهم يسعون إلى أن يعيشوا عُمرهم الذي لا يُدرى أيّان يأتي؛ بيد أنهم, بهدف الوصول إلى الغد, يضيعون يومهم الذي هم فيه.

من المؤسف أنّ الحنين إلى الماضي والخوف من الآتي يفسدان غنيمة الحاضر. الجميع غافل عن أنّ كلّ شؤون الإنسان واعتباراته ليس سوى فرعٍ من البقاء. الإنسان يُضْحي بعد الموت, هو ومخلفّات الزروع سواء، حتى لو شُيّد قبره الضخم من المرمر والذهب الخالص, أو ترُكت جثته طعمةً للذئاب أو غذاء للنمل في القبر.

الإنسان يعلم أنّه ميّت كسائر ذوات الأرواح الأخرى، لكنه لا يريد أن يصدّق أنّه سوف يموت مثلها. من هنا يبني أهراماً على قبره ويحمل ذهبه وجواهره معه إليه.

الناس، منذ مئات القرون, يأتون ويرحلون, والملوك الذين قرعوا جرس «لمن الملك', والحكّام الذين لطّخوا العالم بالتّراب والدّم، والأنبياء الذين رفعوا راية الهداية ووعدوا البشر بحياة خالدة؛ كلّ هؤلاء قضوا نحبهم ولم يبقَ منهم سوى أساطير التاريخ. على الرغم من هذا فالبشر الأحياء يغضون الطرْف عن هذا, ويشيدون لأنفسهم قصوراً من الأفكار والأوهام, ويخلقون حياة من تصوراتهم هم.

إنّ إنّعام النظر في هذه الرّباعيات السّت والثلاثين, التي قد يطمئن إلى أصالتها أكثر من سائر الرباعيات, يفضي التي نتيجة عجيبة، هي أن عمر الخيّام كان يفكر دائماً في هاتين القضيتين حتّى يمكن أن يقال إن فكره الشعري كان يدور عليهما. ففي أكثر من عشرين منها ينصبّ الكلام على الموت والحياة، وفي نحو عشر يركّز على مسألتي الوجود والعدم.

نحن أحياء, لماذا؟ لقد جئنا إلى الحياة وعشناها ونرحل عنها دون إرادتنا. لماذا أتينا؟ ولماذا نمضي؟ وما الوجود أصلاً؟ هل لعالم الوجود بداية ونهاية؟ ماذا كان قبل البداية، وماذا يبقى بعد النهاية؟

إذا ما افترضنا أنّ للعالم بداية ونهاية ندرك العلّة الغائبة من هذا التفكير, أي أن وجود هذه الجزيرة الصغيرة وسط أقيانوس العدم غير المتناهي يبدو صعباً, وأن رائحة العقل والفكر الذي يمثّل عصارة الإنسان ووجوه امتيازه لا يوصل إلى طريق. لذا فليس بالمستطاع أن نفرض بداية ونهاية لعالم الوجود.

لم يستطع أهل الفكر والتّحقّق «أن يخرجوا من هذا الليّل البهيم»، كما أنّ الذين رغبوا في أن يكوّنوا رأياً جازماً «قالوا أساطير وغصّوا في نومهم». فالظاهر أن البحث عن الأزل بدأ، ويظل قائماً إلى الأبد، وأنّ تفكير الإنسان في جوهر هذه الطريق لا سبيل إلى الوصول إليه.

الإنسان ذاته مَن هو؟ إنّه أحد آلاف آلاف. الموجودات ممن وطأت أقدامهم عرصة الوجود ثم تلاشوا، فالطبائع والعناصر في حال امتزاج وانحلال دائماً، والحياة والموت لا توجيه لهما غير هذا في ذهن الخيّام. من هذا المنظور البعيد يتأتى من نظره أنّ الموجود انهدم، ثمّ عاد بالصورة الأولى والمشخصات الأوليّة عينها؛ فتراب قبر «كيقباد»(2) و«أبرويز»(3) لم يمضحلّا، إنمّا صار أقداحاً تدار فيها الصّهباء؛ وتظهر من تركيب الطبائع موجودات وتختفي أخرى من انحلالها.

إذا ما كان الأمر كذلك تفقد جميع المسائل والمشكلات التي تنبجس من فكر الإنسان وعقيدته أهميتها التي أضحى أسيراً لها؛ كل شيء ظنٌّ لا أساس له إلّا حقيقة واحدة فقط هي الموت. فالموت دون عودة حقيقة ندرك منها أننّا أحياء، كل ما يبقى هذه اللحظة، وهي أننّا نستنشق هواء الصباح النقي، ونشهد طلوع الشمس، ونشمّ عطر الأزهار الجميلة.

إن تأمل هذه الرباعيات السّتّ والثلاثين، واستنباط مسألة الحياة والموت، التي شغلت تفكير الخيّام، لست أكثر من فرضيّة تخطر على البال، ولا تتخطّى حدود الاحتمال؛ أوَليس انشغال الفكر الدائم بمسألة الحياة والموت -أو بتعبير أوسع، بالوجود والعدم- هو أسُّ نقطة بداية شاعرية الخيّام. بعبارة أبسط؛ أليست هذه والرباعيّات هي ملاذ الأفكار السيئة التي شغلت الخيّام دائماً؟!

كل شاعر، الشاعر الحق الذي يستحق هذا اللقب، مسخّر فكرٍ هو محور سيره الفكري؛ وهذه الحال جلية بنحو قليل أو كثير في شعراء كبار، كالفردوسي، وجلال الدين (مولوي)، وناصر خسرو، ونظامي، وسنائي، وفريد الدّين العطار، وسعدي الشيرازي، وحافظ الشيرازي، وآخرين. وفي مُكنة المحققيين والمدققين أن يضعوا أيديهم على هذا، ويشخّصوا سيرهم الفكري، وأساليب بيانهم أيضاً.

يمكننا أن نتخيل من خلال الرباعيات الستّ والثلاثين، معنى الموت والحياة، الذي كان محور تفكير الخيّام الشعّري وسائر الموضوعات من مثل: حدوث العالم وقدمه، وعدم تناهي الأبعاد الزمانيّة والمكانيّة وما يتفرع عنها؛ وهو ما قاده إلى موضوع أوقعه كثيراً في الخطأ، ما حمل بعضهم على نعته بـِ'الأبيقوري»، حتى إنّ الاستمتاع بهذه الحال التي تدعى «حياة» انقضت سريعاً.

(1) الميْت: من انتقل إلى جوار ربّه؛ والميّت الذي سوف يموت. يقول تعالى: «أوَمَن كان ميْتاً فأحييناه» (الأنعام، 122)، ويقول: «أيحبّ أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميْتاً فكرهتموه» (الحجرات، 12)، ويقول: «إنّك ميّتون وإنهم ميّتون» (الزّمر، 30), كما يقول: «ثمّ إنّكم بعد ذلك لميّتون» (المؤمنون، 15).

(2) كيقباد: أحد ملوك السلاجقة.

(3) أبرويز: برويز (كسرى الثاني)، أحد ملوك الساسانيين.

• من كتاب بالفارسيّة عنوانه «وقفة مع الخيّام»

للعلّامة الإيراني علي دشتي، استشفه من ست وثلاثين رباعيّة لعمر الخيام رأى فيها ظنّ الأصالة اكثر من غيرها.