سليم ايوب قونة
لأنه لا يجوز للراجل الذي يمشي على قدميه والراكب الذي يقود سيارته أن يلتقيا في نقطة واحدة في أي مدينة، اضطر الإنسان إلى ابتكار منطقة عازلة اسماها الرصيف!
لكن دور الرصيف لم يقتصر على الفصل بين المشاة ومستخدمي المركبات فقط. اذ توسع وتطور هذا الدور مع مرور الزمن الحافل بالمفاجآت والتقلبات. واصبح الرصيف معلما أساسيا ذا أبعاد هندسية وبيئية متداخلة ومتكاملة. ولعل من أهم الوظائف المضافة للرصيف اليوم هي الوظيفة الاقتصادية والاجتماعية والترفيهية.
فعندما فكر أحد أصحاب المقاهي يوما ما في وضع كرسي وطاولة عند باب محله لم يخطر بباله أنه بذلك سجل اختراعا مذهلا عرف «بمقهى الرصيف» غير الكثير في منظومة العلاقات الانسانية والاجتماعية بين بني البشر قاطبة.
لكن الرصيف ودون اسشارة أحد بدأ يلعب دورا إضافيا خطّه لنفسه في حياة الناس. فقد غدا مع مرور الزمن الملاذ الأمثل للمشردين والمنبوذين والأيتام. والواحة الحنون للمحتاجين المعدمين الذين نسميهم بالمتسولين. ونقطة انطلاق كثير من الرسامين والموسيقيين والممثلين نحو الشهرة والمجد مثل بابلو بيكاسو والمغنية السمراء تريسي شابمان. ولذلك أصبح الرصيف وبلا منازع المقر الروحي «للعصبة الدولية» لكل من لا بيت له ولا مأوى ولا أهل! وما أكثر هؤلاء، وما أكثر الهموم والحكايات التي يجرونها معهم الى أرصفتهم المضيافة!.
للعاصمة عمان الصبورة نصيب طيب من كل هذا. اذ لا يتم أي لقاء على اي مستوى بين المواطنين والمسؤولين في امانة عمان، سواء كان هذا اللقاء في قاعة عامة أو على اثير الاذاعة، أو حتى أثناء لقاءات محلية عفوية بين سكان منطقة معينة إلا ويطفو موضوع الارصفة على السطح.
ففي مناطق معينة داخل صحن المدينة هنك أرصفة متنازع على دورها ووظيفتها بين ثلاث جهات. فهناك الباعة الذين يحتلون الارصفة ببسطاتهم «الطيارة» لأن خياراتهم محدودة. مقابلهم تصر أمانة عمان على ضرورة ابقاء الارصفة محررة ومتاحة للمشاة فقط، لأن عكس ذلك يربك السير المكتظ أصلا، ويعرض حياة المشاة للخطر.
بين هذين القطبين يقف أفراد المجتمع الذين يتجهون الى وسط البلد لأسباب مختلفة وكلها مشروعة. هؤلاء يعانون من الازدحام على الارصفة، ولكنهم لا يترددون في الاقبال على البضائع المعروضة.
وهكذا تمضي الايام والسنين دون حل، بل الأزمة في تفاقم في أجواء لعبة الكر والفر اليومية.
مع ذلك لا بأس من سرد مشهدين وحّدهما الرصيف! ففي أحد أحياء عمان يجلس الشاب النحيل على مقعد صغير قابل للطوي عند حافة الرصيف وقد انتصبت الى جانبه أرجيلة «عمرانة» يتناول باحدى يديه من حين لآخر بربيشها لينفث همومه في الهواء. حين لا يتمكن من ذلك تكون كلتا يداه وذراعاه تحتضنان آلة عود قديم يدندن على أوتاره بألحان لعبد الوهاب وفريد الاطرش طالما أطربت الأجيال منذ مطلع القرن الماضي! كل ما يريده ذلك الشاب بضعة قروش لكي يعمر بها أرجيلته!.
عند زاوية رصيف آخر وقبل أكثر من نصف قرن مضى اتخذ رجل من ذوي الاحتياجات الخاصة تلك البقعة مقرا لعمله، وأصبح له زبائنه المخلصون والملتزمون بخدماته. تزوج الرجل بعد ان أحب بقلبه، وأنجب وتزوج من أنجبهم، من ذكور وإناث، وما يزال هذا الرجل راضيا مثابرا على عمله حتى اليوم.
لم يعد الرصيف مساحة عازلة بين المشاة والمركبات فقط كما خطط الاوائل. رصيف اليوم هو جزء أساسي من نبض المدينة، فعند أطاريفه تراق حكايات جميلة دونها حكايات ألف ليلة وليلة!