الرأي الثقافي

الأدب والهُويّة الثّقافية: الهويّة الواقية

(1)

للأميركي «فرانسيس فوكوياما» (Francis Fukuyama) مقالة عنوانها: «ضدّ سياسات الهوية: القبليّة الجديدة وأزمة الهويّة (1): (Against Identity politics: The new Tribalism and the crisis of Democracy) نشرها في عدد شهر آب 2018 من مجلة «شؤون خارجيّة» (Foreign Affairs)، وهي مستلّة من كتابه «المطالبة بالكرامة وسياسات السّخط» (The Demand for Dignity and the politics of Resentment). و قد استدرجت المقالة ردوداً من آخرين ناقشوا أفكاره، ونشرتها المجلة نفسها في شباط 2019.

وعلى الرغم من أن المداولات بين فو ویاما ومحاوريه أساسها مشهد الولايات المتّحدة الأميركيّة ودور الهويّات في إدارة تفاعلاتها كافة، فإنّها تعرّف الحراكات المشابهة في الجوهر في العالم أجمع. ولسنا نحن، في الوطن العربي منفصلين، عن «سياسات الهويّة» التي تتدخل بعمق في إدارة تفاعلاتها كافة بحيث لا نستطيع أن نغضّ الطَّرْف عن التعدديّة الثقافيّة (Multiculturalism) واللّغويّة فيه.

وُعقدت ندوة «حوار المشارقة والمغاربة: الوحدة في التنوع» التي نظّمتها مجلة «العربي» بالكويت (4-6 كانون الأول 2004) والتي شهدت جدلاً وحوارات عن بعض العلاقات الثّقافيّة بين مشرق الوطن العربي ومغربه دون أن تسعفها وتشفع لها موضوعة «الوحدة والتّنوع» في عنوان الندوة الرئيسي كما يرى د.سليمان العسكري وغيره (2).

وقبل كل هذا وبعده، هل نُمثّل نحن الآن ثقافة واحدة وحضارة واحدة عصريتين؟ أليس ثمّة اتجاهات وحركات تمثّل ثقافات متصارعة؟! فمنّا مَن استورد الثقافة الغربيّة، ومنا مَن استورد الثقافة الشرقيّة، حتّى أصبحنا نمثّل، حتى في القطْر الواحد، اتجاهات وثقافات شتى (3).

علينا أن نعترف أننّا نعيش، مذ خرجنا من الأندلس في نهاية القرن الخامس عشر، على هامش التاريخ الحضاري للإنسانيّة. وهذا وحده كافٍ لأن نتحاور مع «الذات» قبل الحوار مع «الآخر» لكي نصلح أوضاعنا الاجتماعية والسياسيّة والاقتصاديّة والفكرية والثقافيّة قبل أن نحاول أن نقنع الآخر بوجهة نظرنا وحقوقنا وعقلانيّة أهدافنا (4).

(2)

الهويّة تنهض على تفاعل متعدّد المستويات بين الفرد والمجتمع بحيث تكون اللّغة ركناً رئيسيّاً في التواصل والاندماج داخل المجتمع، وأداة أساسية لتحديد الهوية والتّعرف إلى الذات عند الفرد والجماعة.

الهويّة والخصوصية من القضايا المهمة الملّحة المثارة في الوقت الحاضر في حالٍ من القلق الشديد في الوطن العربي بعد أن استقّر إعصار «العولمة» فابتلاه، وما زال، بأمواج متلاطمة من التغيرات السياسيّة والاجتماعية والاقتصاديّة واللّغوية والفكريّة والفنيّة والثقافيّة والأدبيّة والنقدية لتحقيق هدف «عولمة الثقافة» ونشر ثقافة واحدة بين الأنام كافة دون مراعاة لهويّاتهم وخصوصيّاتهم، وهو ما خلف ويخلّف آثاراً سالبة في القيم والسلوك والأنماط الفكريّة والثقافيّة (5).

العولمة ليست، دون إنكار لما لها من فوائد ومحاسن، سوی امتدادٍ من نوع جديد للظاهرة الاستعماريّة القديمة (6)، بل أسوأ (7).

إن هويّتنا وخصوصيتنا تعبّران عن انتمائنا إلى المنظومة الإنسانية في منأى عن أيّ بواعث عقائديّة وعرقية قوميّة تعصبيّة ومنطلقات جغرافية سياسية(8). فالهويّة والخصوصيّة أولاً وقبل كل شيء، لأنهما يميزان فنّاً عن فن أخر لأمة ما؛ فإذا ما انعدمتا فأيّ فرق يظل بين البيئات العربيّة والغربيّة ومتطلبات كل منها ومشكلاتها والصّور المستمدة من طبيعة شعوبها(9)؟

الخصوصيّة المقصودة هي الخصوصيّة العامّة لا الخصوصيات الإقليمية، الخصوصية التي تنأی عن الانقطاع والعزلة عن سائر الحضارات والثقافات، والتي تعني الاختلاف النسبي الذي ينهض على حزمة من السّمات الثقافية المتأتيّة عن تراكمات تاريخيّة وتفاعلات بيئيّة ومجتمعية واجتهادات فكرية و إبداعيّة فرديّة.

الخصوصّة في صلبها امتداد للهوية، فالإشارة إلى «ثقافة غربيّة» وأخرى «عربيّة «أو «صينيّة» هو اعتراف بالهويّة والخصوصية(10). بيد أن هذا لا يعني «إقليمية الأدب» التي تبناها الألماني «هورست روديجر» (Horst Ruediger) مخالفاً «كَوته» (Goethe) صاحب مفهوم «الأدب العالمي» أو «عالميّة الأدب» (Weltiteratur) الذي يدعو إلى وعي التقاليد القوميّة للبلدان الأخرى والانفتاح على الأعمال المكتوبة بها، والنقل والتبادل بين الآداب دون أن يُفْضي هذا إلى التّخلي عن التقاليد القوميّة أو انزواء الآداب القومية واختفائها (11).

إن هذا كله يبدّد ما كان يخشاه د.جابر عصفور «من عمليّة الخصوصيّة العربيّة أن نكرر في عبارات معاصرة: نحن عرب وهذا غرب، ولا يجوز أن نأخذ من الغرب وهذا خطر»، ويعزّز ما يدعو إليه: «نحن في عصر لا يمكن لأحدٍ فيه أن ينفصل عن أحد. فلنأخذ ما نشاء شريطة أن نعيد إنتاج ما نأخذ. وأخشى في حديثنا عن التراث والأصالة العربيّة والهويّة العربيّة أحياناً أن نأخذ طابعاً سلبياً كما لو كنا نقيد أنفسنا بأنفسنا؛ فأرجو ألا تكون هذه الخصوصيّة حكراً على شيء أو عائقاً لأيّ شيء من الأشياء» (12). وجابر عصفور نفسه يؤكد، في إزاء رفضه للعولمة، مبدأ الخصوصية لكل الشعوب، وخصوصيتنا نحن بعيداً عن الانغلاق «على أن تتزاوج مع الخصوصيات الأخرى لخلق عالم متعدد الأبعاد والاتجاهات، ولتكون قائمة على التفاعل المستمر بيننا وبين ثقافات الآخر وليس الانهزام أمامها، والأخذ منها على أمل الإضافة إليها»(13).

(3)

إن القلق الشديد، لا سيّما في ساح الثقافة والأدب والنقد، ليس وليد العولمة، إنما هو قديم قد يعود إلى الثلث الأول من القرن العشرين.

ففي عام 1936 التفت الأمير شكيب أرسلان (1869-1946) إلى شيء من تحليل الأدباء ورسمهم، وقال(14): «فأما أسلوب التحليل الذي درج عليه أدباء هذه الحقبة الأخيرة من هذا العصر يذهبون مذاهب الإفرنج لا في المعنى فقط بل باللفظ تقريباً. ويورد الواحد منهم البيت فيأخذ بتشريحه من وجهه ومن قفاه ومن أسفله ومن أعلاه، ويشير إلى ما هنا من عاطفة جريئة وما هناك من ابتسامة بريئة، ويستعمل في الوصف تلك الألفاظ الأوربيّة التي ليس فيها من العربي إلا الحروف بحيث إن كثيراً من العرب لا يفهمون منها قليلاً ولا كثيراً؛ فلسنا من هذا الأمر في قبيل ولا دبير».

وفي عام 1952 حذّر عباس العقاد (1889-1964)، الذي تنطبق عليه وعلى عدد كبير من مجايليه ومن تلاهم إلى حدّ ليس بالقليل، ما يدعوه إدوارد سعيد (1935-2003) «انتقال النظريات»(15)، حذّر تحذيراً عاماً، وركّز على ما أسماه «الهويّة الواقي »، فقال(16): «ومن الخير أن تُدرس المذاهب الفكريّة، بل الأزياء الفكرية كلما شاع منها في أوربة مذهب جديد. ولكنّ من الشرّ أن تُدرس بعناوينها وظواهرها دون ما وراءّها من عوامل المصادفة والتدبير المقصود». ثم قال(17): «وقد تبين أن (الهوية الواقية) كانت ألزم للعالم العربي في هذا الدور (النصف الثاني من القرن العشرين) مما كانت في جميع الأدوار منذ ابتداء النهضة في العصر الحديث. فإن الدّعوات العالميّة خليقة أن تجور على (كيان القوميّة)، وأن تؤول بها إلى فناء كفناءِ الغالب للمغلوب».

ولقد وقف شكري عياد (1921-1994) عند قولي العقّاد هذين، وتساءل تساؤل العارف: «هل يعني هذا أن العقاد أصبح في آخر أيامه رجعيّاً متعنتّاً يقاوم الحديث الذي كان في شبابه من أشد المتحمسين له؟ هذا يتوقف على توجهنا. هل نريد كما كان يريد أن نحافظ على كياننا، بل أن ننميه في ما نقتبس ما نشاء من ثقافة الغرب، أم نريد أن نتبنى هذه الثقافة بجميع عناصرها؟» (18).

هل كان تحذير العّقاد ذاك، وهو الذي ظلّ طوال حياته لا يعترف بشعر التفعيلة، الذي كان يطلق عليه آنذاك «الشعر الحر»، هل كان صدى للصدور العلني لديوان «بلوتولاند» (19) للدكتور لويس عوض (1914-1989) أول مرّة عام 1947؟ قد يكون هذا أحد الأسباب، فلويس عوض نفسه يقول: » فقد فهمت من كتاب (صالون العقّاد) لأنيس منصور(20) أن العقّاد كان يعرف الديوان، وكان له رأي فيه، غالباً رأي لا يسرّ»(21). استهلّ لويس عوض مقدّمة ديوانه بقوله: «حطّموا عمود الشّعر»، واستشهد في خلالها (التجربة رقم 6) بقول «ڤيرلين»(22) في قصيدته «فن الشّعر»: «امسك البلاغة واكسر رقبتها»، وقال: «وشعراء أوروبا قد أخذوا بنصيحة ڤيرلين وكسروا رقبة البلاغة». وقد حذا لويس عوض حذوهم فكسر رقبة البلاغة واعتقد أنّه نجح في ذلك إلى أبعد الحدود(23). وروى في ملحق الديوان «بعد نصف قرن»: «جاءني أن أمين الخولي(24)، رحمه الله، ذكرَ لبعض أساتذة كلية الآداب في عبارتي في مقدمة الديوان (قال ڤيرلين: امسك البلاغة واكسر رقبتها). وعلّق بقوله: احنا اللي هنكسر رقبة لويس عوض» (25).

ومما قاله في المقدمة، كذلك: «لقد مات الشعر العربي، مات عام 1932، مات بموت أحمد شوقي، مات ميتة الأبد، مات»(26). ثم قال: «وجيلنا لم يولَد بباب أحد، وجيلنا يقرأ فالري، و ت. س. إليوت ولا يقرأ البحتري و أبا تمّام»(27).

وذكر في المقدّمة، أيضاً أنّه قد عاهد الثلوج الغزيرة المنشورة على حديقة في خلوة مشهورة بين أشجار الدردار عند الشلّال بكامبريدج ألّا يخطّ كلمة واحدة إلّا باللّغة المصريّة. وقد برّ بوعده في العام الأوّل بعد عودته من البعثة(28) فكتب شيئاً بالمصريّة سماه «مذكّرات طالب بعثة»؛ ولكنه استسلم بعد ذلك وخان العهد. «فلتغفر له الثلوج الطاهرة التي لم تدنسها أقدام البشر»(28). وقد كان يدّعي أنه صاحب نظريّة «أصالة التعبير الأدبي بالعاميّة»(29)، حتى إنّ أحد الباحثين أطلق مصطلح «العوضيّة» في الأدب والفكر العربي المعاصر وأسبابه من خلال قراءة «أوراق العمر» (30). ولويس عوض، كما يرى كثيرون، مجرد» عين مصرية على الأدب الأوروبي، يرحل إلى بلاد الفرنجة ليتابع المسرح والسينما والمعارض الفنيّة، ثم يعود يمتّع قراءها بما رآه هناك»(31). وقد وصف هو نفسه دیوانه بأنّه من «شعر الخاصة»، قائلاً عنه: إنه «من آثار عبوديتي للشاعر ت. س. إليوت أيام شبابي»(32). وحين سُئل مرّاتٍ: «هل عدّلت موقفك من قضية الشّعر واللّغة بعد خمسين عاماً من مشاهدة التجربة على الطّبيعة؟»، كان يجيب في شيء من الحسرة: «كلا، بل لقد أثبتت الأيام صحّة آرائي. تسأل: ولماذا الحسرة؟ وأقول: لأن الإنسان الذي لا تتغير بعض آرائه عبر خمسين عاماً غالباً ما يكون إنساناً جامداً لا أمل فيه، وهي علامة سيئة»(33). بيد أنه ذهل مرة، وهذا تراجع أو مفارقة، لمّا وجد «تجمُّع مجلة (شعر) اللبنانية يوغل في معاداة الشعرية العربيّة وفي تقليد الشعرية الأوربية...، فكتب في أحد أعداد (شعر) يوبخ شعراءها على توجههم المعادي للتراث العربي» (34).