كتاب

باري القوس!

لا شك بأن إتاحة فرصة التعبير والنشر للناس، بيسر وسهولة، هي في جوهرها نعمة وتطور إيجابي.

قبل عقدين ونيّف من الزمن لم تكن فرص التعبير متاحة إلا للقلّة القليلة، أولئك الذين كانوا يكتبون أعمدة أو آراء في الصحف، أو يقدمون برامج في الإذاعة والتلفاز، أو الذين يُستضافون للحديث في وسائل الإعلام، أو الذين ينشرون الأبحاث والكتب.

ومحدودية التعبير والنشر هذه جعلت معظم الناس متلقين للمعلومة بالدرجة الأولى، غير قادرين على إبداء آرائهم فيها، بسبب المحدودية تلك وبسبب غياب البعد التفاعلي في وسائل الإعلام التي كانت مُهيمنة آنئذ.

كان الحديث يسير باتجاه واحد، وكان حكراً على فئة قليلة؛ مما حرم الأغلبية من حرية التعبير ومن الإدلاء بدلوها، وحرم المجتمع من آراء أو وجهات نظر قد تكون مختلفة أو مخالفة، وتثري الحوار.

أمّا في الوقت الحاضر فتعاظمت وسائل الإعلام والتواصل على نحو غير مسبوق، ما أتاح الفرصة للغالبية العظمى من الناس للتعبير عن آرائهم بيسر وسهولة.

لا بل إن عموم الناس أصبحوا يمتلكون الأجهزة، مثل الحواسيب والهواتف النقالة، التي تُمكّنهم ليس من الرد أو التعليق على ما يُقال أو يُكتب أو يُبث، بل من القول والكتابة والبث، وكأنهم باتوا مصدر المعلومة والمنشى والمحرك لها، وهذا تحوّل أو تطور هائل.

وكما قال أحدهم، صار بيد كل واحد منا صحيفة وإذاعة وتلفاز متاحة لنا أربع وعشرين ساعة في اليوم.

وهذا التطور المحوري يصب في دَمقرطة العلاقة بين المُرسِل والمستقبل، وحق الشعوب في التعبير عن رأيها بحرية، وحق المجتمع في المعلومة غير المنقوصة أو المقيّدة، وتمكين صانع القرار من بناء قراره على معرفة دقيقة بالرأي والآراء الأخرى - ولا أقول الرأي الآخر - فصيغة الجمع مهمة هنا، لأن التعدّدية، لا الأحادية أو الثنائية - هي النعمة لمن يُحسن استثمارها.

إذاً تعبير الناس عن آرائهم بحرية تامة أمر محمود وتطور إيجابي.

بيد أن لذلك بعض المحاذير، منها أن إحلال الأهواء والانطباعات وأنصاف الحقائق مكان الآراء المدروسة يسهم في اختلاط الأمر وتشويه الحقيقة وارتباك الناس، وتفشي حالة اللايقين.

وهذا أمر مقلق، لأن العديد ممن يكتبون أو يتحدثون في الوسائل المتاحة يتسمون بالتسرع في طرح «الآراء» وبث «المعلومة»، قبل التفكر والتّيقّن منها.

لا بل أصبح العديد منهم يدلي بدلوه ويصدر الفتاوى والأحكام في الأمور التي ليست من اختصاصه أو ليس لديه إلمام بها من قريب أو بعيد. ومن هنا جاءت مقولة «يهرف بما لا يعرف».

المزعج هنا هو علو صوت الهواة على أصوات المحترفين، وصوت اللاهين العابثين على أصوات الخبراء، مما يدخلنا في مآزق ومتاهات نحن بغنى عنها.

المطلوب الآن هو العكس تماماً؛ الإعلاء من شأن الخبراء والعارفين والمختصين، على مبدأ:

يا باري القوس برياً لست تُحكمه لا تظلم القوس أعط القوس باريها

وبعد، لنستمع للجميع، لنحترم حقهم في التعبير؛ لكن لنصغِ للخبراء والمختصين والعارفين، في الأمور التي تحتاج للخبرة والدراية.