كتاب

لا يعترفون بالآخر!

قبل اكثر من ستين عاماً كنت في انجلترا في بعثة التخصص التي حصلت عليها من المجلس الثقافي البريطاني وعرفت هناك مدى عناية هذا المجلس بمبعوثيه ليس من الناحية العلمية فحسب بل ليتيح لهم ايضاً التعرف على الشعب البريطاني وطباعه وعاداته بالاطلاع الحي المباشر على ثقافاته السياسية والاجتماعية المتنوعة من خلال برنامج دعوات عشاء يتلقاها المبعوث من قبل عائلات تتطوع لهذا الغرض يتم خلالها التبسط في الحديث وتبادل الافكار والآراء وكان من نصيبي ذات مرة عائلةٌ تضم زوجين في سبعينات العمر والطريف ان الزوج كان ينتسب لحزب المحافظين والزوجة لحزب العمال مع ما بينهما من اختلاف في السياستين المحلية والعالمية.. ولعل من الدروس التي اختزنتها ذاكرتي عن علاقتي بهما ضرورةَ احترام الآخر ورأيه فقد كانا اذا تحدث واحدا منهما اصغي التاني ولم يقاطعه أو يثور في وجهه غضباً كما يفعل كثير منا في شتى مناقشاتهم سواء أولئك المتعصبون لعقيدتهم حين يحاجّون بثوابت يدعون ألاّ (جدال) عليها فيخالفون بذلك (وجادلهم...) كتوجيه خالد أُلقي على أسلافهم قبل اربعة عشر قرناً أو اولئك المتعصبون لاصولهم العرقية حين يصرخون من ظلم الاعداء متوهمين انهم وحدهم مستهدفون لأنهم خير من الأمم الأخرى، ويغفلون بذلك ان هناك شعوباً ذات اعراق واديان مختلفة في آسيا وافريقيا واميركا اللاتينية قهرها الاستعمار ونهبها بطرق أشد وأنكى، كما يفعل المهيمنون من الغزاة البيض حتى الآن بالسكان الاصليين والسود والفقراء والمهمشين في الولايات المتحدة نفسها! لا أدعي اليوم انني التزمت تماما بفحوى ذاك (الدرس) القديم البليغ فلطالما أخطأتُ وتمسكتُ بوجهة نظري، ولطالما غضبتُ وانا أصر على تفنيد الرأي المقابل لأنتصر عليه وكأن الحوار مبارزة بالسيوف ينبغي ان تنتهي بغلبة واحد على الآخر إن بقتلهِ أو طرحِه ارضاً! لكني في نفس الوقت أزعم أنني اقتربت كثيرا من فهم الاخرين بفضل الانفتاح على ثقافات العالم وفلسفاته وعدم التقوقع على تاريخنا وكأنه الأوحد وأخيراً بالاهتداء على الأقل بكلمات بسيطة من تراثنا تتردد على الألسن كثيراً مثل: (كلامي صحيح يحتمل الخطأ وكلامك خطأ يحتمل الصواب...). وبعد.. لاننا لم نحقق الديمقراطية في حياتنا السياسية فأن ثقافة الحوار عندنا مازالت ضعيفة وتفتقر لروح الديمقراطية بالإضافة لاسباب أخرى فرعية من بينها التربية البيتية الأبوية مروراً بالتعليم السيء الضحل في مدارسنا وجامعاتنا وصولاً الى سلوكنا في حياتنا العملية واشتباكاتنا الفكرية حتى بات اكثرنا في دواخلهم لا يعترفون بالآخر ولو ادّعوا خلاف ذلك!