هنالك فرق كبير، عند الحديث عن الذات أو الغير أو الثقافة أو الدولة، بين الجلد والنقد.
فالأول مُحبط ومُثبّط وسلبي وهدمي، والثاني مُحفز ومُحرّك وإيجابي وبنّاء.
الجلد تُغذّيه العاطفة الهوجاء والانطباع المتسرع والمقارنات المغلوطة والإشاعات وأنصاف الحقائق والأهواء والمصالح. أما النقد فمُؤسّس على ملكة التفكير المتزن والمعلومة الدقيقة والتحليل العميق والحقائق الموطنة في سياقاتها والموضوعية في الطرح والبحث عن الحقيقة لأجل الحقيقة ذاتها.
كثيرة هي الفوارق بين المفهومين، ولا مجال للخوض فيها كلّها.
بيد أنني أودّ تسليط الضوء على بُعْد مهمّ منها، له انعكاسات كبيرة على ثقافتنا المعاصرة، والذي يتمثل في أن الجلد هو حالة مَرَضيّة غير صحية.
ففي أدبيات علم النفس، هنالك نوعان شائعان من الجلد كحالة مرضية: حالة جلد الذات، والمعروفة بالماسوشية أو المازوخية، وهي نزعة التلذذ في تعذيب الذات؛ وحالة جلد الغير، والمعروفة بالسادية، وهي الميل إلى متعة تعذيب الآخرين.
وهذان النوعان متفشيان في مجتمعنا هذ الأيام، مع فارق مهم، وهو جلد الغير، لا جلد الذات؛ إلا إذا قصدنا بالذات هنا «الذات العامة» أو الذات المجتمعية؛ بمعنى ذات الغير وليست ذات الأنا.
وهو ما يمكن تسميته، في حالتنا، بالماسودية.
فالفرد في مجتمعنا، اللهم إلاّ من قلّة، يرى الخطأ في كل فعل ومكان، ويلقي باللائمة على الكلّ إلا ذاته المعصومة عن الخطأ، حتى لو كان هو جزء لا يتجزأ من المنظومة التي يشبعها تقريعاً وجلداً ليل نهار. فهنالك أمثلة صارخة على حالات كثيرة يجلد فيها المرء أداء المؤسسة التي يعمل هو فيها منذ أمد، وكأنه غير مسؤول عن «أخطاء» أو «فشل» تلك المؤسسة، وكأنّ أداءه لا علاقة له بأداء تلك المؤسسة، ولا يصبّ فيها.
وذات المقارنة تنطبق على جلد الأفراد للمجتمع أو الثقافة أو الدولة الذين هم جزء لا يتجزأ منها، والذين يكون أداؤهم جزءاً من أدائها، لكنهم يستثنون أنفسهم وأداءهم من الجلد.
كأنهم يعيشون في المريخ.
وفصل الذات الفردية عن الذات المؤسسية أو العامة هو حالة مرضية قد تكون خاصة بنا.
وأكثر ما يزعجنا في حالة تفشي الجلد، وغياب النقد، أنها شائعة وشاسعة ومترامية الأطراف، لا تبقي ولاتذر، وأنها تخلط الأوراق وتُشوّش وتُشكّك وتُقلل من المنجزات.
على سبيل المثال، هل كان الذي قاله أو كتبه الكثيرون، من باب الجلد، عن نتائج الثانوية العامة التي أعلنت حديثاً، مفيداً؟ هل ساعدنا على فهم ما حصل؟ وهل كان مفيداً ما قيل أو كتب قبله بأسابيع عن التعليم العالي بعد قيام دولتين خليجيتين بالتوقف عن إرسال طلبتهما لبعض الجامعات؟ وهل يفيدنا ما يقال ويكتب عن الاستثمار وحالة الاقتصاد والتطور والاصلاح والفساد، من باب جلد الذات إيّاه؟ وبعد، فالمطلوب هو الإعلاء من شأن النقد، ولجم الجلد ومحوه.
مواضيع ذات صلة