المؤسسة العلاجية قتلها عدم الفهم وتدخل المصالح الشخصية
الموارد البشرية والطب هما الصناعة الأساسية لدينا في الأردن
زمان.. لبيوت الشعر ومضارب البدو تقاليد صارمة غير مسموح لأحد بتجاوزها
لم يفقد الباشا عبد السلام المجالي تفاؤله رغم كل ما رآه وعايشه. وهذه نعمة ليس مثلها بالنسبة لرجل دولة ولد عام 1926 وما يزال محجّة في الرأي والنصيحة لمن يقلقهم اهتزاز الأرض واتساع دوائر التوجس والقلق.
أساس التفاؤل عند د. المجالي إيمانه بأن قوة الأردن هي في الشرعية والموارد البشرية، مضافاً لها الطب والعلاج، كون هذه الخلطة هي الصناعة الأساسية للدولة، حتى في زمن كالذي نعيشه فيه ضعف شرعية القطاع العام.
في السجل الشخصي للدكتور عبد السلام المجالي قائمة طويلة من السبوقات التي سجّل فيها أنه أول من فعل كذا وأول من تولى كذا وأول من حقق وانجز هذا الأمر أو ذاك.
يُحصّن أبوسامر أنه عاش والتزم وما يزال يتذكر، بيت الشَعَر الذي نشأ فيه، وطقوس وتقاليد وضوابط المضارب والخيام. فقد أرست في وجدانه حس الانضباط ومسؤوليته، ومنحته المرونة وسعة الأفق التي جعلته الآن يؤمن بالتعددية السياسية والحزبية واللامركزية. كان يوصف بأنه من الحرس القديم، أو القديم جداً، لكنه كرجل دولة من طينة فريدة، يستطيع أن يواكب وأن يستشرف ويستبق.
فهو صاحب مشروع المؤسسة العلاجية التي أفشلها ضعف الرؤية السياسية لدى بعض قطاعات بيروقراطية الدولة، مضافاً لها تدخل المصالح الشخصية.
وهو الذي أدار مفاوضات اتفاقية وادي عربة التي أفشلت مخططات الدولة البديلة والتي تشكّل الآن واحدة من الضوابط على شطط «صفقة القرن».
سبق للباشا أن كتب سيرة حياته «من بيت الشَعَر الى سدّة الحكم»، واليوم يضيف إليها هنا ما يستحق مما هو بعيدٌ عن السياسة.
يحتل د. عبد السلام المجالي موقعه الأول في مجموعة كبيرة من الأسبقيات المهنية والسياسية والاجتماعية في التاريخ الأردني الحديث، بدءاً من أنه الأول في تخصصه الطبي وتخرجه وعمله في الجيش، وانتهاء بما أحدثته الجامعة الأردنية عند رئاسته لها أو في وزارة الصحة عندما تولاها بثلاث حكومات. وبين كل هذه الأسبقيات أنه أول مجالي يتزوج أجنبية غير عربية
لو نعيد اليوم قراءة هذا السجل ووضعها في سياقها التاريخي والاجتماعي:
مرتان تحمّلتم فيها مسؤولية رئاسة الحكومة، عام 1993 وعام 1997. ماذا تقولون في موضوع ولاية رئيس الحكومة وهو الموضوع القديم المتجدد في الطرح والمعالجة؟
اختيار رئيس الحكومة حسب نص الدستور من حق الملك فهو رئيس السلطة التنفيذية، يتولاها باختياره رئيس الوزراء، لتشكيل الحكومة، فيتفق الرئيس مع أعضاء حكومته على سياسة هذه الحكومة، هكذا جرت العادة، صحيح ان الملك هو رئيس السلطة، لكنه يتولاها عن طريق الحكومة، التي يأمر بتأليفها، وهو يتحمل المسؤولية. ويحق للملك حسب نص الدستور أيضا تغيير الرئيس في الوقت الذي يشعر بضرورة ذلك.
وأنتم رائد في موضوع المؤسسة العلاجية وربط مستشفيات المملكة، لماذا فشل ذاك المشروع؟ وهل أنتم راضون عن الخدمات الطبية الراهنة؟
خلال الفترة التي أمضيتها في الخدمات الطبية شعرت أن القوات المسلحة لديها إمكانيات في التوسع والتطوير فهي متقدمة على المؤسسات الأخرى، من حيث قدراتها المالية والإدارية، وأصبحت بمكانة وبمستوى متقدم جداً، هذا الحس دعاني لتتوحد جميع الجهود، في القطاعين الخاص والعام لتصبح مؤسسة واحدة تقدم خدمات للجميع، بصورة متوازية، ومعقولة ومقبولة، إلا أن هذا التطور لم تفهمه الحكومة السياسية وتدخلت المصالح الشخصية من البعض فقتلت بعض الأفكار المتقدمة، ولم تنجح النجاح المطلوب.
ما أريد قوله: الأردن بلد صغير، وامكانياتنا محدودة لكن لدينا طب في الجيش، وفي الوزارة، وفي القطاع الخاص، وأيضا طب للمؤسسات الدينية، وجميعها مشتتة، حتى المرضى مبعثرين في هذا المكان وذاك، والتشتيت مكلف، فكانت فكرة توحيد القطاع الطبي العلاجي، بمؤسسة واحدة تضم كل القطاع الذي ذكرتها. طرحت الفكرة خاصة وأن الخدمات الطبية متقدمة، فآمن الملك الحسين - رحمه الله - بالفكرة، وسميت المؤسسة الطبية العلاجية، وصدر بها قانون إلا أن التطلعات الخاصة كما قلت من جهات مختلفة سواء في القطاع الخاص أو القطاعات الأخرى لم يعجبهم الأمر، فقاوموها، لعدم ايمانهم بضرورتها، لذلك أغلقت بعد فترة قصيرة من تشكيلها.
ما زلت أقول لو أنها تمت واستمرت لكان الطب الآن في المملكة لا يوازيه طب في العالم العربي كله. التوحيد يضمن جهد متكامل يستطيع الابداع.
الآن كما نرى وزارة الصحة تعمل لوحدها والقطاع الخاص يعمل لوحده والخدمات الطبية لوحدها..الخ.، ومع ذلك ما زالت الخدمات الطبية الموجودة لدينا أفضل من كل الخدمات الطبية الموجودة في العالم العربي، علما انه من الممكن أن تكون أفضل ويجب أن تكون أفضل.
كيف ترون الطريق لإعادة الألق والسمعة الدولية لهذا الصرح الصحي؟
أؤمن بأمرين أساسيين لا بد من التركيز عليهما: الطب والموارد البشرية «التربية والتعليم»، فهذين الأمرين هما الصناعة الأساسية لدينا، أن نربي إنسان قادر على الخدمة، مستواه جيد، حيث لا موارد طبيعية لدينا إلا الإنسان، وعليه كل المسؤولية، ومن الضروري أن نقدم له أقصى ما يمكن من القدرة حتى يطور نفسه إلى ما هو أفضل...
ما أريد قوله أن أي خروج على أي نظام يؤدي إلى الفوضى.. الخدمات الطبية بدأت بمعالجة العائلات، والعائلة هي زوجة وأبناء العسكري، لكن مع كل أسف بالتهاون والتعاطف أصبح شقيق العسكري يتعالج وابن عمه وجاره فأصبحت نوع من الاستغلال والفوضى ويجب أن تعود إلى مصادرها الرئيسية، فالمدينة الطبية التي هي قمة الهرم يجب أن لا يأتي إليها طبيب إلا محولاً من قبل مستشفى فقط. أؤمن بأنه يجب أن تعالج الآخرين، على ان يكون ذلك في مدى مقبول ومعقول، وليس على حساب آخرين.
استراحة
ماذا تحمل الذاكرة من سنوات طفولتك؟
بداية أنا من مواليد 1926على يد جارتنا توحيدة كما قيل لي. وكبرت وأصبحت جزءا من عائلة كبيرة مؤلفة من 14 ابنا وأبنة من ثلاث زيجات كتبها الله على والدي. حاولت تحديد اليوم الذي ولدت فيه فاتفق أمر أمي وجدتي على ان ذلك حدث في 18 من شهر شباط.. لم أكترث كثيرا ان كان ذلك قبل يوم أو يومين أو بعدهما.
تسميتي عبد السلام بقرار من والدي ألذي رغب أن تبدأ أسماؤنا مركبة من عبد الله.
تعود بي الذاكرة إلى طفولة حلوة مرحة كلما مرت بذاكرتي أشعر بحلاوتها، وأنا أرى نفسي في غرفة واحدة مع أشقائي نأكل ونشرب وننام كأننا توائم في فراش واحد. وفي فصل الشتاء تتدنى حرارة الكرك إلى ما فوق الصفر بقليل، فتصطك أسنانا من شدة البرد، خاصة في ساعات الليل والصباح الباكر فنسرع جميعنا إلى غرفة الحطب ملتفين حول كانون الحطب رغم أن الغرفة لا تكاد تتسع لهذا العدد من الأخوة والأخوات والجدات.
ما تزال تحمل الذاكرة أيضا العطل الصيفية والرسمية في مدرسة الكرك لنذهب إلى قريتنا «الياروت» في أيام الحصاد، فنتجمع كصغار وما أن تشرق الشمس يكون الحصّادون قد قطعوا في حقول القمح مسافات واسعة ويقومون ما عليهم القيام به للعودة إلى منازلهم تاركين الحقول لمجموعات يقودون جمالهم وبغالهم ويحملونها سنابل القمح التي تركوها لهم على شكل حزم وكنا عندما نذهب لحقول القمح نلتقط السنابل التي لم تصل اليها أصابع الحصادين أو تكون قد سقطت من أيديهم ونجمعها حسب همة كل واحد مناّ واذا مررنا بالقرب مما يجمعه الحصادون نسرق بعض السنابل، خصوصا إذا كان حصادنا قليلا وكنا نلحق بالجمال المحملة ونلتقط من خلفها كل سنبلة تسقط عن ظهورها ثم نذهب إلى مكان آمن لنجمع غلتنا ونبدأ بفرك السنابل حتى تخرج منها حبات القمح ونضعها في صناديق صغيرة من التنك ونسارع الى دكان القرية لبيعها لصاحب الدكان ونشتري بثمنها الحلاوة أو الراحة.
تقاليد صارمة
مضارب البدو في بيوت الشعر طقوس وتقاليد صارمة جدا لا يسمح لأحد بخرقها أو تجاوزها. فعندما يقترب الضيف على حصانه يتجه رأسا إلى بيت الشعر الذي يعرف أنه سيضيف فيه، فيمر من خلفه وليس من الفسحة الأمامية بين صفين من بيوت الشعر المخصص لتحركات أهل البيت. وعندما يصل تكون حوافر حصانه قد نبهت العائلة إلى وصوله، وأحيانا الأولاد يرونه قادما من بعيد فيعرف أهل البيت أن ضيفا من قبيلة أخرى قد جاء، فينزل عن حصانه وبصوت مرتفع يقول «السلام عليكم» فيستقبله صاحب البيت مرحبا به ويربط حصانه في المكان المخصص ويقود ضيفه إلى المضافة.
تقدم القهوة الجديدة للضيف، وعندما يحل موعد الطعام تبدأ النسوة بتحضير العشاء، وقد جرت العادة أن يكون الطعام منسفا من القمح المجروش أو من الرز للضيوف القادمين من المدينة على لحم خروف أو جدي.
وبانتهاء تناول وجبة الغداء أو العشاء وبسبب قلة المياه يقومون بمسح أيديهم بالرّفّة وهي آخر طرف بيت الشعر يتدلى منه على شكل منشفة أوقطعة صوف زائدة.
ما تزال عالقة في ذاكرتي تلك التقاليد التي لا يمكن تفسيرها إلا بأنها خيوط متماسكة من المحبة والاحترام والنخوة والغيرة على سمعة العشيرة وأبنائها.
أذكر بعد وفاة والدتي عام 1941 كنت في الـ 15 من عمري فانتقل أبي إلى بيوت الشعر في منازل العشيرة لاستقبال المعزين. وبعد الانتهاء من مراسم العزاء، تقدم أحد وجهاء عائلة المجالي من والدي وقال له:
رحم الله الفقيدة، وأسكنها الجنة. وها أنت اليوم قد أصبحت مع أولادك دون زوجة وسيدة بيت ترعاكم. وإني أتقدم منك أن تقبل باحدى بناتي زوجة لأحد أبنائك حتى يبقى بيتك عامرا بجو الأمومة والحياة العائلية.
كنت أستمع لكلام العم براحة وهو يقدم إلينا أنبل ما يقدم الأخ لأخيه. ويخيل إلي اليوم وقد تجاوزت سن التسعين أن الحياة التي شهدتها بيوت الشعر هي الحياة المثلى التي تحملها الحياة بحلوها ومرها.
الكتاتيب
حرص أبي على تعليم أبنائه. تعليمنا بالنسبة له هدف أساسي في حياته مقدرا قيمة العلم والتعلم وأن لا مستقبل لجاهل.
في الكرك كما في كل قرية أردنية كتّاب يتولون تعليم أبناء القرى. وفي الكرك كتّاب يتولى إدارته الشيخ محمد... هي محطتي الأولى في رحلة التعليم، جلست على حصيرة لأتعلم على يديه القرآن الكريم، وهو شيخ جليل صارم.
لم يعجبني كثيرا ما أنا عليه وكل تفكيري يتجه التسجيل في مدرسة الكرك لمعرفتي بالامتيارزات التي سأحصل عليها من خلال ملاحظاتي على شقيقي عبد الوهاب الذي سبقني إليها، وهي غير متوفرة في الكتّاب، فطلبت من والدي وأنا في سن الخامسة ارسالي اليها فقال لي ان سني لا يؤهلني لدخول المدرسة قبل السابعة وعلي متابعة الشيخ محمد.
استمريت بالألحاح على الوالد والتوسل إليه فاستجاب مبتسما واصطحبني، إلى مدرسة التجهيز ومديرها محمود أبو غنيمة مبديا رغبتي في دخول المدرسة. دقق المدير النظر في تفاصيلي وبحزم قال لأبي:» هذه مدرسة مش حضانة». فأجبته بثقة وتصميم: أنا لست صغيرا، افحصني..أنا أحفظ القرآن الكريم.
أعجب المدير بإجابتي وقال بدهشة: القرآن؟ لنسمع ما تحفظه، فقرأت سورة الفاتحة والإخلاص من غير تلعثم، ثم سورة الكوثر قرأتها بخشوع تعلمته من الشيخ محمد. شعرت برضى المدير فربت على كتفي وقال: سأضعك في الصف التمهيدي يا عبد السلام.
في الصف الثاني اكتشفت ان الدراسة صعبة، وأنني قد أعيد الصف بسبب ضعفي في قواعد اللغة العربية إذا لم أنجح في الاكمال، واستاذي بهذه المادة متري حمارنة. اصطحبني أبي لتأدية إكمالي في اللغة العربية فإذا نجحت سأترفع للصف الثالث، فطلب مني الأستاذ متري أن أصرف فعل «ضرب» فضحك مطولا حين أجبت: ضرب يضرب (تِضرب) وكان هذا الخطأ المضحك شفيعي في مثل سني وكان سبب نجاحي.
في كل سنة دراسية أجد نفسي أكثر وعيا واهتماما في دراستي، ففي الصف السابع كان ترتيبي الأول واستقريت في هذه المرتبة لسنوات لاحقة.
شعر الوالد أنني وشقيقي عبد الوهاب في هذه المرحلة أصبحنا أكثر نضوجا فبدأ يشركنا في عدد من أمور حياته، مما شكل عنصر معرفة جديدة، فقد كانت عملية «الجباية» تتضمن تنظيما اسمه «الإرسالية» وهي كشف حساب شهري يرسله الجابي ويمثل حصيلة لعمله مع نهاية الشهر، وصار الوالد يستعين بي وعبد الوهاب في إعداد هذه الإرسالية، التي فتحت عليّ بابا جديدا من المعرفة، فصارت الأرقام تعني لي حقائق، إضافة أنني ألفت أسماء الناس وعلاقتهم بالأرقام، ومعاني الفقر والغنى، والقحط والجفاف، والخصب والمطر. ومن المهم أن أذكر أن صلاحيات الجابي تتضمن الإعفاء الكامل أو الجزئي أو الرفع الجائر، عن الأشخاص في تحصيل الضريبة، وما زلت أذكر خمسة جباة في الكرك هم: محمود الطراونة، محمود المعاني، حامد الصوراني، أحمد عساف وعطا لله المجالي وجميعهم تتطلب وظيفتهم زيارات ميدانية قد تمتد لعدة أسابيع متصلة.