كتاب

هل تأخرت كثيراً على عبد الوهاب ؟!

لأني لم اكتب عن محمد عبد الوهاب كما كتبت عن آخرين من اساطين الطرب مثل أم كلثوم واسمهان وفيروز ظن البعض أنني تجاهلت ارثه الفني العظيم والحقيقة غير ذلك تماما، ولقد دفعني للكتابة عنه الآن حافزان اولهما أغنية لم اعرفها من قبل لكني اصبحت اسمعها مؤخراً ومطلعها (ياليل صمتك راحة) من مقام حجاز كان قد أداها بمصاحبة عوده في تسجيل خاص في ثمانينات القرن الماضي وهي تشجيني وأتمنى لو تحظى بالتسجيل مع اوركسترا كاملة، والحافز الثاني أؤجله لآخر المقال!

في رأي كثير من المختصين أن صوت عبد الوهاب لا يضاهيه صوت آخر في اتقان كل الطبقات ومن كل المقامات ويرون كذلك أن عبقريته لا تكمن فقط في انه ادخل على فرقته التوزيع الموسيقي الرشيق بدل الطريقة التقليدية لعزف (الآلاتية) في التخت الشرقي! ولا في انه تأثر بالموسيقى العالمية واقتبس عنها ما ساهم في خلق تفاعل انساني بين العرب وثقافات الشعوب الاخرى، ولا في انه تجلّى في مطوّلاته المشهورة (الجندول والكرنك وكيلوبترا وسواها) التي لم تزل تتوهج منذ اربعينات القرن الماضي.. بل تكمن في تنوع ألحانه التي امتعنا بها عبر مئات من اغانيه واغاني غيره من المطربين والمطربات وشكلت جزءاً من ثقافتنا الفنية.

لم نكن نعرف انه لا يحمل فكراً سياسياً معيناً لكننا حين سمعنا أغنية (ما احلاها عيشة الفلاح) ولشدة اعجابنا به كدنا نصدق بأن الفلاح المصري ينعم بالسعادة الى أن عرفنا حقيقة بؤسه وشقائه!

رغم نجاح افلامه القليلة تجاريا إلا ان النقاد اعتبروه ممثلا فاشلاً، مثلما أنه لم ينجح في الغناء على المسرح أمام الجمهور، لكنه أبدع عندما صدح بأغانيه المصرية الوطنية كما غنى من اجل دمشق وبغداد والجزائر وابكانا اثناء النكبة بـ (أخي جاوز الظالمون المدى)، ويوم قامت ثورة يوليو عام 1952 حاول بعض المنافقين اقناع الزعيم عبد الناصر بمنعه وام كلثوم من الغناء بحجة انهما غنّيا للعهد البائد فرد عليهم بقوله الشهير: وهل تريدوننا ان نزيل ابا الهول والاهرام من ارضنا وتاريخنا ؟! أما السادات فقد أساء لهذا الفنان الكبير إذ حوله الى ما يشبه مهرج السيرك حين منحه رتبة عميد ليقود فرقته الموسيقية بالبزة العسكرية!

وبعد.. لقد دُعي محمد عبد الوهاب بحق موسيقار الاجيال.. فحتى ايامنا هذه نرى (السمّيعة) من مختلف الاعمار يتمايلون ويرقصون على موسيقاه جزلاً ونشوة كما حدث أمس في المدرج الروماني وفرقة ثلاثية جبران القادمة من الناصرة تعزف ضمن برنامجها الرائع مقطوعتين من الحان موسيقارنا الكبير!