كتاب

كي لا ننسى: ضرورة التمكين الثقافي!

تحديات عديدة تواجه الفرد والمجتمع في هذه المرحلة الدقيقة التي نمرّ بها. منها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والمعرفي والتكنولوجي والصحي.

وفي محاولة للتصدي لهذه التحديات وغيرها، بذل العديد من المعنيين جهوداً لا بأس بها ضمن مفهوم «التمكين»: تمكين الفرد، وبالتالي تمكين المجتمع، والذي هو – أي المجتمع – مجموع الأفراد الذين يعيشون فيه.

ونتيجة لهذه الجهود، رأينا العديد من المبادرات والمشاريع التي تهدف، على سبيل المثال لا الحصر، إلى تمكين الدارسين من امتلاك المهارات التي يحتاجونها في سوق العمل بعد تخرجهم، وتمكينهم من تأسيس المشاريع الصغيرة، ومن استخدام التكنولوجيا في تنفيذ المهاهم المختلفة في مجال العمل ومجال الحصول على المعلومة، ومن الانخراط في العمل السياسي، ومن خدمة المجتمع في شتى الميادين، ومن الإلمام بالمعلومات وممارسة العادات التي تخدم اللياقة البدنية والصحية، وغير ذلك كثير.

صحيح أن العديد من مبادرات التمكين ومشاريعه هذه ما يزال قيد التنفيذ، لكن هنالك اهتماماً واضحاً بها، وتركيزاً لا بأس به عليها.

وهذا أمر إيجابي ومبشّر.

بيد أن ما ينقصنا على نحو واضح الآن التمكين الثقافي.

قديماً كان مجتمعنا يهتم اهتماماً كبيراً ببناء ثقافة الفرد، وكان يُعلي من شأن المثقف، ومن شأن دوره في المجتمع، ومن شأن المنصات التي يُطلّ من خلالها على المجتمع.

أما اليوم فانحسر الاهتمام بهذا البعد على نحو لافت، لا بل إننا لم نعد نستخدم كلمة مثقف كثيراً، ولم نعد نميّز من المتحدثين الكثر والكتاب الكثر – وبالذات في عهد ما يسمى بثورة المعلومات، التي تتجسد في أسوأ صورها بوسائل التواصل الاجتماعي – بين المثقف ومدعي الثقافة، بين العارف والهارف، بين الناقد البناء والعابث الهدّام.

في عصر الثرثرة هذا، اختلط الحابل بالنابل على نحو غير مسبوق.

من هنا وجب علينا جميعاً، أفراداً ومؤسسات، العناية بالتمكين الثقافي لمواجهة حالة فوضى الكلام التي نعيشها، وحالة الانفلات من قواعد اللباقة واللياقة والأدب والحكمة، التي أخذت تفسد الأجواء في مجتمعنا وتمس علاقات أفراده بالسوء، وتنال من سمعة مؤسساته، لا بل وتهدد أمانه وأمنه.

المثقف – الذكر والأنثى معاً – هو من يمتلك المعلومة الصحيحة الدقيقة في العديد من ميادين المعرفة، السياسية والاقتصادية والعلمية والأدبية والدينية وغيرها، ومن يطوّر مهارة التفكير الناقد التي تعينه على التمييز ما بين الغث والسمين، ومن يمتلك مهارات التواصل الفاعل، فيكتب لينير الطريق للناس، مقدماً لهم المعلومة المفيدة والرأي السديد، ويتحدث ليحفز الهمم ويدعو للتفاؤل وليضيء الشموع في الطريق المعتم، لا ليشكك ويربك ويحبط ويلعن الظلام.

لا بد للأسرة ولمدارسنا وجامعاتنا ومؤسسات التنشئة الاجتماعية المختلفة من إيلاء موضوع بناء ثقافة الفرد والعناية بالمثقفين جلّ اهتمامها، ومن تسهيل وصولهم لمنصات التواصل الفاعلة، وتقديمهم على غيرهم، لمواجهة التسطيح الذي أخذ يتفشى كالنار في الهشيم، ويكون ذلك بالمناهج التي تجعل من الثقافة الرصينة هدفاً، وبالعناية بمهارات التفكير الناقد ومهارات التواصل والذكاء الانفعالي، والتركيز على وسائل الإعلام الرصينة التي يديرها ويقودها ويشارك في برامجها المثقفون، لا بائعو الكلام.

وقد أحسنت الجامعة الأردنية، الجامعة الأم، عندما عدّلت حزمة متطلبات الجامعة التي يدرسها الطلبة كافة تعديلاً جوهرياً، لتصبح مادة «التربية الوطنية» «الثقافة الوطنية»، وعندما أدخلت مواد تشكل وتبني التفكير على أسس متينة، ومنها بناء مهارات التعلم، ومهارات التواصل، والبحث العلمي، ومهارات التفكير الناقد، والريادة والإبداع، والإلمام بأمهات الكتب.

وأحسنت عندما قررت مؤخراً إنشاء «منتدى الجامعة الأردنية الثقافي»، الذي سيكون منارة للعلم الرصين والمعرفة الحقة ومنصة من منصات التنوير، والذي سوف يطلق في حفل لائق قريباً.

وبعد، فلا خيار لنا اليوم سوى إعادة بناء ثقافة الفرد على أسس متينة وإعادة الهيبة للثقافة والمثقف، إذا أردنا إحداث النهضة التي ننشدها جميعاً والتي أكدّ عليها كتاب التكليف السامي وتبنتها الحكومة.