كنت في ادنبره أحضر مؤتمراً طبياً حين نشرتْ الصحف البريطانية صباح 23 تموز 1971 نبأ الانقلاب الذي قام به ضباط من الجيش السوداني بالتنسيق مع الاحزاب السياسية ضد حكم الدكتاتور جعفر النميري وقد وصفتْه بانه To the Book أي كامل المواصفات من حيث التنظيم وعدم إسالة قطرة دم واحدة لكن الايام القليلة التالية حملت انباء دموية مفزعة إذ تمكنت مصر السادات وليبيا القذافي وكانتا في اتحاد عسكري مع السودان من التدخل السريع لصالح النميري وأعادتْه الى الحكم في انقلاب مضاد تم فيه اعدام الزعيم اليساري عبد الخالق محجوب والضابط هاشم العطا ورفاقه، وتباهى السادات يومئذ في خطاب فج وهو يصف التدخل بالقول إن للاتحاد انياباً يعرف كيف يستخدمها!
وبعد عودة جعفر النميري لحكم مطلق استمر سنوات طويلة دمّر خلالها اقتصاد بلاده وأهدر مواردها على مشاريع فاشلة ونهبَ آخر ما تبقى من مال في خزائن البنك المركزي هارباً به عام 1985 حين نجحت ثورة السادس من نيسان التي قام بها الشعب السوداني بقيادة ائتلاف النقابات المهنية والاحزاب السياسية المعارضة وبمساندة عدد كبير من ضباط الجيش وكان اعلاهم رتبة عبد الرحمن سوار الذهب الذي كلفته الثورة بادارة البلاد وتعهد بأن يتخلى عن السلطة ويسلمها لحكومة مدنية منتخبة ديمقراطياً وقد وفى بالوعد عندما اسفرت الانتخابات عن فوز الصادق المهدي برئاسة الوزراء واحمد الميرغني برئاسة مجلس رأس الدولة وشارك في الوزارة عدد من قادة النقابات المهنية في مقدمتهم نقيب الاطباء الدكتور حسين ابو صالح جراح الدماغ والاعصاب الذي عُين وزيرا للصحة، وبعد ذلك بعامين (آذار 1987) كنت احضر اجتماع مجلس وزراء الصحة العرب في الخرطوم حين تعرفتُ عليه ونشأتْ بيننا صداقة وألفة وروى لي بعض احداث الثورة وكيف كان النميري متوجساً من حدوثها اذ بث عيونه في كل مكان وأقام طوقاً امنياً عسكرياً مزدوجا حول العاصمة حتى لا يخترقه او يفلت منه أي من يحاول الانقلاب عليه!
وذات مساء اصطحبنا الدكتور ابو صالح في جولة حرة تعرفنا فيها على مظاهر الانفراج السياسي وبهجة الحياة في العهد الديمقراطي الجديد حيث بدأت الطاقات الشبابية باطلاق ابداعاتها في مجالات الفن المختلفة مما لم يكن متاحاً في السابق فقد شاهدنا مسرحية ثورية قدمها فنانون وفنانات كان الحكم الديكتاتوي قد قمعهم واعتقل العديد منهم بحجة نشاطاتهم السياسية، لكن.. لم يمضِ وقت كافٍ على هذه الثورة كي تستعيد للسودان عافيته حتى نجحت القوى المعادية للديمقراطية في 30 حزيران 1989 بالانقضاض عليها مدعومةً من حليفاتها في دول عربية واجنبية معروفة بقدراتها وخبراتها في اجهاض الثورات وتخريبها خصوصاً في دول اميركا اللاتينية، وعاد الى السودان حكم عسكري آخر لكن هذه المرة بثوب ديني قومي(!) كان ينظّر له الشيخ حسن الترابي وقد كشف لاحقاً انه استدعى العميد عمر البشير الذي كان ينتمي لتنظيم اسلامي آخر لتسلم السلطة، أما باقي القصة فمعروف ومستمر منذ قرابة اربعين عاماً حيث يتدهور الاقتصاد ويزداد الشعب بؤساً وعناءً ويتفتت الوطن الواحد الى وطنين ثم ينقسم الى ثلاثة!
وبعد.. لقد تداعت الى ذهني كل تلك الذكريات عندما أُعلن قبل ايام عن وفاة المشير سوار الذهب وهو رجل نادر المثال ذاعت سمعته العطرة كأول رئيس عسكري يتخلى عن السلطة للمدنيين طوعاً كما وعد وخلافاً لما يفعله قادة الانقلابات خصوصاً في عالمنا العربي، فعلى روحك السلام يا صاحب الخلق العظيم، واللعنة على كل الطغاة الذين طواهم التاريخ مدحورين في زواياه المعتمة او اذاقتهم شعوبهم بعض المُر الذي أذاقوها فرأينا بأم أعيننا كم كانت فظيعة نهايات بعضهم مثل موسوليني وتشاوشسكو والقذافي.. والقائمة تطول!
مواضيع ذات صلة