أبواب

التعلم الشمولي.. جهد أقل وتعلم أكبر

استغرق سكوت يانج سنة واحدة فقط في تعلم منهج علم الحاسوب الذي يدرسه الطلبة في أربع سنوات في المعهد ذاته، كما خاض تجربة أخرى تعلم من خلالها أربع لغات خلال سنة واحدة فقط، فكيف يقوم سكوت بتعلم كل هذه الأشياء في خلال وقت قصير؟ يقدم الإجابة عن هذا السؤال من خلال كتابه «Holistic Learning» الذي يتحدث فيه عن مفهوم التعلم الشامل أو الشمولي، تلك الطريقة التي تعتمد على مذاكرة أقل وتعلم أكبر، لقد أشار إلى أمر مميزجدًّا وهو أن هناك أناسًا يمكنهم تعلم المبادئ والمواد الجديدة بلا مجهود يُذكر فيما يحتاج البعض الآخر إلى بذل جهد أكبر لتحصيل نفس كمية المعرفة، ويُفسر هذا الفرق بـ عملية التعلم الشمولي التي يصفها بأنها «طريقة لشرح الكيفية التي يفكر بها الأذكياء، وبالتالي فهي ليست تقنية جديدة لكنها أنماط تفكير معينة».

يقول سكوت بأن مخ الإنسان يتكون من مجموعة من الأعصاب المترابطة والمتداخلة، عكس جهاز الكمبيوتر الذي ينظم المعلومات في ملفات منفصلة لمنعها من التداخل في بعضها، وإذا كان التعلم بالتلقين يقوم على تنظيم المعلومات في صناديق متفرقة مما يعني عدم ربط المعلومات ببعضها وصعوبة الوصول إليها عند الحاجة، فإن عملية التعلم الشامل تعمل على تنظيم المعلومات في شبكات متداخلة مما يعني سهولة الوصول إليها.

هنالك تعريفات مختلفة لهذا النوع من التعلم لكن المبدأ الأهم والأساسي فيه هو أن تبتكر طريقتك الخاصة في التعلّم - البعيدة تمامًا عن طرق التعليم التقليدية بالحفظ والتكرار- والتي تتميز بالاستكشاف ومتعة البحث عن المعلومات، وأن تنظر للأمور بنظرة شاملة من زوايا متعددة ترى فيها الايجابيات والسلبيات لتخرج بوجهة نظر مختلفة قد تغير العالم.

تعتمد فكرة التعلم الشمولي على النظرة الكلية للأمور وفهم الترابط الذي يجمع الأجزاء فترى جميع العلوم متصلة مع بعضها بخيط رفيع وكل منها يصب في الآخر؛ فعندما تتعلّم الفيزياء ستفهم الكثيرعن الكيمياء، وعندما تتعلم الكيمياء ستفهم الكثير عن العلوم الآخرى كوظائف الكائنات الحية مثلاً فجميع العلوم متداخلة والربط بينها يجعلك تفهم النظرة الكلية لها، لذا فإن التعلم الشمولي يكسر الفكرة التقليدية بأنك يجب أن تكون متخصصًا في جزء صغير من فروع أحد العلوم وتجهل كل شيء عن أي علم آخر.

هناك فجوة كبيرة بين ما نتعلمه والواقع العملي؛ فنحن نحفظ العديد من المعلومات ونتعلم الكثير من الحقائق دون معرفة الهدف والحكمة من ورائها وكيفية الاستفادة منها وهذا أشبه بمن حصل على مواد البناء دون أن يعرف كيف يستخدمها، والحال نفسه في الرياضيات نتعّلم مبادِئه ونتعمق فيها دون أن نفهم ما الذي استفدناه من هذه المسائل والمعادلات المعقدة؟ لقد تبخرت من رؤوسنا تمامًا بمجرد الخروج من المدرسة أو الجامعة ولم نستفد منها في حياتنا العملية على الإطلاق، فعندما ترغب في اكتساب مهارة أو تعلّم أحد العلوم اربطه دائمًا بالواقع من حولك وبالممارسة العملية ولا تملأ رأسك وتحشوها بالمعلومات فحسب، فمعرفتك بقواعد اللغة لن تجعلك متحدّثًا جيدًا لها.

ومن المبادئ التي يقوم عليها التعلم الشمولي وضوح الهدف؛ فنحن جميعًا بحاجة إلى هدف ودافع قوي للتعلّم، دافع أكبر من تحقيق مكسب مادي أو حتى تطوير مهارة، وهدف يتمثل في الشغف بالتعلم فلا نشبع من المعرفة والاطلاع على كل جديد، ولابد أن تكون العلوم والمعارف ذات مغزى وقيمة بالنسبة لنا، وأن تكون لنا الحرية في اختيار الأسلوب الذي نتعلم به، فنحن معلمي أنفسنا نختار ما نتعلمه بالوسيلة التي تروق لنا وفي الوقت المناسب، فالبشر كائنات متفاوتة للغاية، والتعليم الذي يصنع المبدعين يراعي الفروق الفردية والجوهرية بين الأفراد ولا يلزمنا بقالب أو طريقة معينة للتعلم، فلنفهم أنفسنا جيدًا ولنأخذ وقتنا في التجربة والخطأ حتى نصل إلى الطريقة المناسبة .

كما أن ربط ما نريد تعلمه بأشياء مألوفة من حولنا سيكون أسهل ونستطيع تذكره باستمرار، وهذه الأشياء قد تكون معلومات سابقة أو أشياء مادية أو بعض التواريخ، ويجب أن لا نقلل من شأن هذه العملية لأنها تقوي الذاكرة وتجعل المعلومات مترابطة فيصعب نسيانها وتثبت أكثر في ذاكرتنا، وكلما أصبحت المعلومات بديهية ولا تحتاج لجهد لتذكرها كلما أفسحت المجال للعقل كي ينشغل بالإبداع والاستنتاج.

ويكمن الهدف من التعلم الشمولي بربط الأجزاء والمعارف ببعضها كي نبتكر حلولًا إبداعية للمجتمع، وهذه الحلول قد تكون تكنولوجيا جديدة تجعل حياة الناس أسهل، أو حل لمشكلات مستعصية مثل أزمة التعليم أو المياه والطاقة وغيرها. إن الإبداع يكون أكثر قيمة عندما يرتبط بالقدرة على حل المشكلات، وأن تكون مبدعًا يعني أن تمتلك قدرًا من التعاطف مع الآخرين وتفكر في حلول لهم سواء على المستوى الفردي أو المجتمعي أو العالم بأسره.

يذكر سكوت ثلاث خطوات يتم من خلالها التعلم بشكل شمولي تبدأ بتمثيل النموذج المعرفي؛ فإذا أراد المهندس إنشاء أحد المباني فإنه لا يشرع في البناء على الفور ولكنه يقوم أولاً ببناء نموذج توضيحي للمبنى الذي يريد إنشاءه، هذا النموذج ليس عليه أن يكون مطابقاً للمبنى ولكنه بمثابة تمثيل سريع للمبنى الذي يحاول الوصول إليه. كذلك النموذج المعرفي فالهدف في الأساس هو تكوين بناء معرفي سليم يمكننا من خلاله ربط المواد ببعضها، وللوصول لهذا المبنى علينا الوصول إلى تمثيل سريع للمفهوم الذي نحاول ربطه أو فهمه، ومن دون بناء العشرات من النماذج المعرفية لن نستطيع الوصول إلى البناء المعرفي الصحيح.

ثم تكوين البناء المعرفي؛ الذي يتمثل في مجموعة من النماذج المعرفية التي تم ربطها ببعضها البعض، ويعد تكوين البناء المعرفي الهدف الأساسي من عملية التعلم وإلا فإن المعلومات ستصبح منفصلة عن بعضها ولن نستطيع الاستفادة منها. وأخيرًا ربط المعلومات ببعضها؛ وهنا نقوم بربط البناءات المعرفية ببعضها ونسج خيوط الاتصال بينهما والتأكد من تماسك التكوين المعرفي الذي قمنا ببنائه.

ومن الخطوات العملية التي يمكن اتباعها في عملية التعلم الشامل أو الشمولي استخدام المخيلة الحسيّة (التصور)، حيث ينصح سكوت بضرورة تكوين تجربة حسية كاملة في التعلم حيث نقوم بربط المعلومات التي نحاول فهمها بصورة تجتمع فيها حواس النظر والسمع والشم واللمس والتذوق.

وبينما يشكل التصور الخطوة الأولى لتكوين النماذج، تكون التشبيهات بمثابة الرابط الذي يجمع النماذج والوحدات البنائية ببعضها، حيث تعمل التشبيهات على تحويل الأفكار المجردة إلى أجسام مادية واضحة وملموسة، ومن أحد أهم التشبيهات المعروفة هي تشبيه أينشتاين للكون بأنه «قماشة مصنوعة من الزمان والمكان»، إن ما قام به أينشتاين هنا هو ربط وحدتين معرفتين معقدتين ببعضهما البعض ليكون بناء معرفيا أكبر وهو الكون، ومن التمارين التي يمكن من خلالها استخدام التشبيهات هو استخدام مقولة «يذكرني هذا بـ ...».

كما تعد عملية المراجعة ومحاولة الكشف عن نقاط الضعف وأخطاء الفهم - لتصحيحها في أقرب فرصة - الخطوة الأخيرة في التعلم الشامل، ويتم هذا من خلال التطبيق وحل المشكلات المختلفة والحصول على تقييم للأداء، كما يمكن اختبار المعرفة بشكل ذاتي وإعادة مذاكرة الكتب والملاحظات لمراجعة ما تم تعلمه، والهدف هنا هو اختبار الفهم والكشف عن معايير الجودة للتأكد من أن ما تم تعلمه قابلاً للاستخدام.

إن التحدي الحقيقي في التعلم الشمولي هو أنك تعلم نفسك بنفسك وتكون مسؤولًا عما تعلمت، ويتطلب ذلك الحماس والحب لما تتعلمه وكذلك الانضباط والمسؤولية، فلا تكتفي بمعرفة المعلومة فقط دون تطبيقها لأنك تتعلم بالممارسة وبالتجربة والخطأ، ولا تستسلم عند الفشل بل تعلم منه وشارك في التجارب العملية والأنشطة والفعاليات المختلفة، واستخدم كل حواسك في التعلم، وحافظ على هذا الشغف بداخلك فلا أحد يراقبك إلا أنت، إن التعلم الشمولي رغم متعته مسؤولية تضعك تحت تحدي حقيقي لاختبار طموحك وشغفك وإصرارك على النجاح والإبداع.

مستشارة تربوية

Ameeneh@live.com