كتاب

الكتب لا تعود إلى الأقفاص !

وأنا أقرأ رواية ((رمل المايَة)) كنت أبحر بلا اشرعة في محيط لا ينتهي من امواج متلاطمة تتكسر على صخور الشواطئ البعيدة يصم اذنيَّ صراخ الموجوعين وانين الحزانى في الغربة الموحشة، وبينما تغرقني الدهشة تلو الدهشة ويلفني الانبهار وتغمرني اللوعة تخترق روحي انغامٌ تتراوح بين الشجن والفرح وبين قرع طبول الحرب وبكاء الاطفال المذعورين ثم أُفجع كيف يستعر الشبق المحموم بالملذات في مخادع الجواري وامراء ذاك الزمان، وفي حماماتٍ مضمخة بعطر الريحان وقشر الرمان، ثم تتقلب أمام ناظري صفحات التاريخ الاندلسي في نهاياتها الحزينة ومذلة غرناطة يوم غادرها مطأطئاً ملكُها محمد الصغير أبو عبد الله وفيه رمق ملهوف على سيقان القشتالية البضة التي سحرته وجعلته يوقّع على تسليم مدينة كان لها أهلها الذين صدقوا وعوده فخان آمالهم واحلامهم وأحرق اشواقهم وكل ذكرياتهم.

وأجدني أقفز فوق القرون منذ اهل الكهف وصولاً الى عصر العسكر وانقلاباتهم وكيف تتغير اسماء دولهم وأعلامها حسب أهواء الجنرالات والاملاءات القادمة من الشماليين مع أسلحتهم الحديثة المدمرة وبواخرهم التي يسرقون بها البترول جهاراً نهاراً لكن بالسعر الذي يفرضونه، ومروراً بأسوار الطغاة السميكة المحصّنة وسراديب سجونهم حيث الروائح النتنة تتصاعد من تقيّح جراح المعذبين في زنزانات التحقيق، ولا تفارقني في طريق الدهر الطويل شهقات دنيا زاد (بعد شهرزاد) وهي تروي لشهريار مع اشتهائها الفّوار فاجعةَ الليلة السابعة بعد الألف وبعض ما قاله الذين شهدوا صَلْب الحلاج وتقطيعه، وقبل ذلك ما فعله معاوية بابي ذر الغفاري ، وأخيرا أقرأ وصف المعارك في المدينة الصابرة قبل ان تدك مدفعية القلعة بوابات القصر وتَخرجَ الجموع باتجاه البحر الذي طالما استوعب أحزانهم وخبأها في جوفه ثم انتشى وهو يرى الغجرية الجميلة ((ماريانة)) متزينة باطواق من ياسمين اشبيلية وهي تخطو فوق رماله، تعزف وتغني لهم فتبكيهم وتبكي معهم ثم ترقص فرحاً وشوقاً لتنسى كل عذابات محاكم التفتيش وأيام الشدة العظمى ((وعندما يفتح الباب تُشرق بابتسامتها المعتادة التي تحمل دهشة الطفولة، ثم تقول: تعال ! واسيني يا واسيني )) وكنت بالصدفه قد وصلتُ الى الصفحة الخامسة والاربعين بعد المائة الرابعة من رواية واسيني الاعراج الاخيرة ((رمل المايَة))، وفي صباح الاثنين 3 /9 / 2018 صحوت منزعجاً على صوت مذيع ال BBC يقول إن الرقابة قد أعيد فرضها في احدى الدول العربية فمنعتْ تداول اكثر من اربعة آلاف وخمسمائة كتاب بينها مؤلفاتٌ لواسيني الأعرج الروائي الجزائري العظيم لاحتوائها على ما يخدش الحياء العام أو يمس بعض المعتقدات والمسلمات أو يسيء الى التقاليد ! صحيح أني قرأت في ((رمل الماية)) كلاماً يتداوله الناس بعفوية ويتجنبه الكتاب في العادة رغم انه سلس يدخل القلوب ويسمى الاشياء والاعضاء باسمائها ويسرد قصصا عرف العرب ابطالها القدامي عبر القرون لكن كتب التاريخ ((الرسمي)) في المدارس لم تجرؤ يوما أن تسردها على حقيقتها المخزية، والصحيح ايضاً أن عقلية الرقابة اثبتت مراراً وتكراراً منذ غادَرَنا العثمانيون قبل مائة عام أنها لا تعيش هذا العصر بدليل ان التقرير الاخباري لل BBC في الاسبوع التالي قد ذكر أن بين الكتب الممنوعة رواية ((مائة عام من العزلة)) للكاتب الكولومبي العالمي غابرييل غارسيا ماركيز ورواية ((قواعد العشق الاربعون)) للاديبة التركية المبدعة إليف شَفَق، وان هناك احتجاجاً واسعاً على هذا المنع !

وبعد.. ما دامت اسراب الطيور تحلق في كل سماء فكيف لبشرٍ أن يحبس الكتب في الاقفاص ؟!