ليس الحديث هنا عن كأس من الشاي يحلو بعد القيلولة أو عن كأس من النبيذ المعتق يتفنن في وصفه شعراء لم يكن ابو نواس اولَهم ولا كان آخرَهم ، لكنه حديث عن كأس العالم لكرة القدم الذي ينشغل مئات الملايين من جميع شعوب الأرض هذه الايام بمشاهدة مبارياته في روسيا بين فرق من اثنين وثلاثين بلداً، وهو حديث ذو جوانب متعددة لا تقتصر فقط على جاذبية اللعبة التي فاقت كل الرياضات الأخرى شعبية ورواجا وانتشاراً خصوصاً بعدما انتهز الفرصة اذكياء ((البزنس)) في النظام الاقتصادي العالمي القائم على مبادئ السوق والخصخصة و((تسليع)) كل شيء حتى الرياضة، فقاموا بالتسلل الى الاتحاد الدولي لكرة القدم ال FIFA وعدّلوا قوانينه وطرق المشاركة في مبارياته إن بين نوادي الدول الاعضاء أو على مستوى القارات والعالم، وشرعوا منذ البداية في الترويج لـ ((الاحتراف)) كوسيلة من وسائل التطوير بدلاً من ((الهواية)) التي ميزت هذه الرياضة وحببت الناس بها منذ نشوئها في اوروبا وانتشارها بعد ذلك بين صبية الازقة والحارات في البرازيل أو مصر أو ملعب المحطة في عمان! وكانت مصحوبة بمشاعر الانتماء للحي أو المدينة ثم على رأس ذلك كله الولاء للوطن، واستمرت الهواية دهراً طويلاً في صُلب مبادئ اقوى وأعرق الفرق قبل ان يحل محلها الاحتراف الذي لم يصبح على اي حال قدراً محتوماً فها نحن نرى في المونديال الحالي فريق بلد صغير كآيسلاندا (330,000 نسمة) يُبلي بلاءً حسناً رغم انه مشكّل من لاعبين غير محترفين فمنهم موسيقي ومخرج سينمائي ومدير مكتب عقاري.. واطباء، وهم يمارسون مهنهم وأعمالهم الى جانب هوايتهم بكرة القدم في نواديهم ويبلغ عدد اللاعبين الهواة في آيسلاندا 21500!
وبعد أن تسلل الانتهازيون الى الفيفا حوّلوه والنوادي المحلية في كثير من دول العالم الى ما يشبه شركات تجارية اصبحت في وقت قصير واسعة الثراء بفضل ارباح الاعلانات وعقود البث التلفزيوني وشركات احتكار بيع الاشتراكات لمشاهدة المباريات ناهيك عن بيع بضائع وصناعات صغيرة ذات علاقة باللعبة كأعلام الاندية والهدايا التذكارية والقمصان التي تحمل شعاراتها، ورافق ذلك ازدهار السياحة في البلد الذي يستضيف مباراة هامة فما بالكم عندما يحظى بان تقام فيه مباريات كأس العالم، وقد أدى ذلك كله الى انفاق باذخ في بناء الملاعب الضخمة على احدث التكنولوجيات الهندسية كي تتسع لعشرات الآلاف من المتفرجين وتوفّر لهم جميعاً سهولة المشاهدة والمتابعة ومعايير الامن والامان والراحة، كما ساعدت الدعاية التسويقية على تدفق الاموال إلى خزائن الاندية بغزارة لم تكن تخطر ببال مؤسسيها الاوائل فتمكنت من شراء (!) اللاعبين المَهَرة من اي ناد في العالم بعشرات بل بمئات الملايين من الدولارات واصبح بعضها من أنجح ((الشركات)) حتى دخلت اسهمها الاسواق المالية العالمية فاشترت بعضَها حكوماتٌ لم تكن تعرف هذه الرياضة في تاريخها!
صحيح ان عدداً هائلاً من عشاق كرة القدم يتمتعون في الوقت الحاضر – مقابل الثمن – بمشاهدة لعبة كرة القدم على الشاشات سواء في مباريات كأس العالم أو أمثاله وهو ما لم يكن متاحاً أو ممكنا في الماضي، وصحيح ان شراء النوادي الغنية للاعبين البارعين جعل مبارياتها اكثر جاذبية وأشد اثارة.. فزاد دخلها! لكننا نلاحظ احياناً تناقض مشاعرهم وارتباكها عندما يتقابلون في كأس العالم حيث تتوزع بين ولاءين احدهما للوطن والآخر للنادي ولرفاقهم فيه! وصحيح ايضا أن بعضاً من هذه المظاهر السلبية التي اوردتها ليست حكرا على كرة القدم بل تتكرر في اكثر من رياضة محلية وعالمية ككرة السلة والهوكي والسوكر الاميركية والرغبي والبيسبول والكرة الطائرة لكنها على درجة أدنى وبنسبة اقل كثيراً..
ولعل سائلاً يسأل: وهل نسيت ما يرافق المباريات من احتكاك وخشونة وغضب وعنف واحباط وتوتر ما يجعلها ضارة ومؤذية وقد تترك احقاداً وحزازات أو تولد رغبات بالانتقام؟ وردي على ذلك ليس انكاره بل طمأنة السائل بأن اكثره عابر مؤقت سرعان ما يزول ويتلاشى وتعود العواطف في الجولات التالية ودّيةً مفعمةً بالحماس للتمتع بهذه الرياضة او تلك من رياضات التنافس وتتجدد الرغبة في مشاهدتها موسماً بعد آخر بل مباراة بعد أخرى.. وأما انحياز المشاهدين حد التعصب لهذا الفريق أو ذاك فهو أقصر الأحاسيس الانفعالية عمراً لانه غير قائم على أسس موضوعية أو منطقية!
وبعد.. ورغم كل هذه الملاحظات التي يبدو بعضها جارحاً وقاسياً فان موسم المونديال سيظل مهرجانا للفرح والبهجة يُبعدنا ولو لبعض الوقت عن أحزاننا البشرية ويشحننا بالأيمان بأن الحياة اقوى من مآسيها وأبقى، ونظل نحب هذه اللعبة الجميلة المثيرة.. ونحب الكأس!
مواضيع ذات صلة