كتاب

.. أم جاسوس مزدوج؟!

في وقت مبكر من عمري حين كان اقراني في المدرسة يقرأون بنَهمٍ كتب آرسين لوبين وشرلوك هولمز كانت نفسي تعاف الروايات البوليسية وقصص الجاسوسية وقد لازمني هذا العزوف طوال حياتي تقريباً الى أن زارتني قبل اسابيع صديقة مثقفة واهدتني كتاباً عنوانه ( الملاك) (الجاسوس المصري الذي أنقذ اسرائيل) لمؤلفه يوري بار– جوزيف الباحث السابق في الجيش الاسرائيلي والمحاضر في جامعة حيفا، الصادر بالعبرية عام 2010 وبترجمته الانجليزية في العام الحالي (2017)، وما أن بدأت بقراءته حتى وجدتني مسترسلاً دون توقف فقد حوى كمّاً كبيراً من المعلومات التي عايش جيلي معظمها في مرحلة طويلة من التاريخ السياسي المعاصر لمنطقة الشرق الاوسط كما روى احداثاً موثقة عن بعض زعمائها وابطالها الى جانب خونتها وعملائها.. والجاسوس المقصود هو أشرف مروان صهر الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر الذي كان حسب الكتاب قد رفض تزويجه لابنته منى ثم وافق على مضض وعامله بجفاء وعيّنه في مكتبه تحت عين سامي شرف! وقد حاول اشرف مروان الاتصال لاول مرة بالمخابرات في السفارة الاسرائيلية اثناء وجوده في بعثة في لندن عام 1970 لكنه فشل، ثم عاد وحاول بعد وفاة عبد الناصر ونجح في العمل لحسابها وقدم خدماتٍ ومعلومات واسراراً لا تقدر بثمن بعد ان أصبح مستشاراً للرئيس السادات ومسؤولا عن العلاقات مع السعودية ممثلةً بكمال أدهم وليبيا ممثلة بعبد السلام جلود خاصةً في تسهيل وعقد صفقات الأسلحة، وقبل حرب اكتوبر 1973 كان قد زوّد الموساد بخطة الهجوم المصري بكل التفاصيل العسكرية وأعداد الكتائب وانواع الأسلحة المشاركة واسماء الضباط المسؤولين عن التنفيذ ما عدا ساعة الصفر التي ظلت خافية عليه، وقبيل اندلاع الحرب بيومين فقط علم بتاريخها المحدد وهو مساء السبت 6 اكتوبر فقام على عجل بابلاغ اسرائيل لكنها لم تأخذ الأمر على محمل الجد اللازم ولم تستعد له بالتعبئة العامة حسب الاصول المتبعة في الطوارئ القصوى ربما لانها كلفّتها بسبب تأجيلها في مرة سابقة ميزانية كبيرة (!) وخلّفت لديها شكوكاً بان المعلومة إنذار كاذب وبأن المبلّغ عميل مزدوج، وقد بدأ الهجوم فعلاً الساعة الثانية بعد الظهر اي قبل ساعات قليلة من الوقت الذي حدده اشرف مروان فكانت المفاجأة التي اربكت اسرائيل وحقق المصريون بها انتصارات أولية كبيرة واوقعوا خسائر جسيمة في صفوف الجيش الاسرائيلي..

الكتاب الذي يقع في نحو أربعمئة صفحة مدجج بالمراجع والمعلومات أما التحليل البارع الذي لفت نظري فيشير الى نوع الاستقبال الذي يتوقعه المؤلف لكتابه لدى المصريين وكيف انهم لن يتقبلوا ان يكون بين ظهرانيهم من يقوم بمهمة قذرة كالجاسوسية ضد الوطن خصوصاً حين يكون الجاسوس هو اشرف مروان صهر زعيمهم التاريخي جمال عبد الناصر ومستشار انور السادات بطل العبور، بل سوف يعتبرون تلك الخيانة عاراً يلطخ شرف كل واحد منهم! وهذا ما حدث بالفعل عندما صدر كتاب إيلي زائيرا قائد المخابرات العسكرية الاسرائيلية أثناء حرب اكتوبر الذي استقال بعد إدانته بالاهمال من قبل لجنة التحقيق وقد ظهر فيه لاول مرة اسم أشرف مروان الذي ظل جهاز الموساد يحتفظ به بسرية تامة، حتى ان محمد حسنين هيكل طالب بأن يتم تحقيق جاد لاظهار الحقيقة وذلك في كتابه (مبارك وعصره) لكن احداً لم يتحرك، كما أن التعليق الوحيد الذي تفوّه به الرئيس مبارك بعد سماعه نبأ مصرع اشرف مروان بالقاء نفسه او القائه من شرفة شقته في لندن عام 2007: لقد كان وطنيا خدم وطنه! وذلك ما أراح عدداً من القلقين لاسباب مختلفه لكنه ضلّل التحقيق أو اجهضه..

لقد قرأت كثيراً من ردود الفعل المصرية على كتاب يوري بار / جوزيف مثل تعليق ابراهيم البحراوي الخبير المصري في شؤون المخابرات وما قاله الصحفي احمد المسلماني في برنامجه التلفزيوني (الطبعة الأولى) ونبيل العربي امين عام الجامعة العربية السابق، كما سمعت كل ما قاله في مقابلة تلفزيونية الكاتب المصري المعروف عبدالله السناوي الذي ألح على الحكومة المصرية أن تقول رأيها وليس الأمر بالنسبة لها صعباً، فاذا كان لديها ما يفيد بأن اشرف مروان كان مكلفاً من قبل بعض اجهزتها بالقيام بمهمة العميل المزدوج فانها تدحض كثيرا مما في الكتاب ويبقى على قارئه في مصر او في اي بلد في العالم ان يستنتج الحقيقة بنفسه، وحتى الآن لم تستجب!.

وبعد.. صحيح ان المؤلف فنّد فرضية العميل المزدوج لكنه لم يتهجم على معتنقيها ولم يُشد بقدراتٍ خارقة للموساد في تجنيد اشرف مروان لان الرجل ذهب اليها ليضع نفسه في خدمتها، ولم يسيء لمصر أو لعبد الناصر وأظهر بشكل جليّ ان (التقصير) كان من قبل اجهزة الاستخبارات الاسرائيلية كما ورد في لجنة أغرانات، ومن الملاحظ أن الكتاب خلا تماماً من اي اشارة لمصادر أخرى زودت اسرائيل بمعلومات عن نية مصر وسوريا شن الحرب.. كما أنه لم ينفِ ذلك!