كتاب

الحب ..

أتذكر أمي جيدا , أتذكر حين كنت أصاب بالتهاب اللوز في الصف الثاني الإبتدائي وأذبل مثل عناقيد العنب في اخر موسم ...ويأخد المرض مني قوتي وطفولتي ..أتذكر أني كنت أحاول أن أبلع الطعام ولا أقدر, كون تضخم اللوز ..يجعل مساحات الحلق ضيقة جدا .

كانت أمي تصنع لي (شوربة عدس) ...وأجلس في حضنها , ثم تمسك الملعقة وتضعها أمام فمها , وتبدأ بنفخ الهواء عليها كي تبرد , بالعامية نقول (بتهف) ..يا ما (هفت) لي على الشوربة , وياما برد ذاك الزفير ..حرارة الحساء .

كنت أجلس في حضنها , واحس نفسي أتذوق طعم الهواء الخارج من رئتها ولا أتذوق الحساء , وكنت أشعر كيف نقصت حرارته , وكيف اختفى البخار المتصاعد الذي يخرج منه ..كنت أشعر أن الملعقة حتى الملعقة ..تذوب في يد أمي , والهواء كان دوائي ,كان أهم من كل المسكنات , وكل ما حقنوني من (إبر) وكل أنواع الشراب التي بلعتها على أنها (مضاد حيوي) ..

هل يوجد أردني لا يتذكر هذا المشهد , هل يوجد شيخ عشيرة أو وزير أو مدير أو نائب لا يتذكر ..أمه وهي تنفخ على الحساء , كي لا تؤذي حرارته الحلق ...هل يوجد أردني لا يتذكر هذا الهواء , وكيف شفيت حناجرنا منه ..وكيف نهضنا مجددا نمارس الحياة بكل تفاصيلها العذبة ..

وحين تكبر يتبدل المشهد , حين يغزو الشيب رأس أمك , وحين يداهمها المرض وحين يسرق قوتها .. وألق العيون , تمسك أنت صحن الحساء وتبدأ بالنفخ عليه محاولا أن تخفف حرارته , حتى لا يلدغ الحساء لسانها أو يجرح ولو قليلا من جدار الحلق .. وبنفس الحب الموجود في زفيرها وهي تنفخ لك حين كنت طفلا .. نفس الحب يخرج من رئتيك .. ويظلل ملح الحساء , وفي كل نفخة تدعو الله أن يخفف ألمها ...ويدك ترتجف خوفا من أن تسقط ولو نقطة من الحساء على (كم) قميصها ... ثم تترك الصحن وتغادر لصلاة الجمعة على أن تعود بعد ساعة .... ولكنك تعود , وتجد أن اخر ما أخذته من الدنيا رشفات من حساء , فيها روحك التي نثرتها كهواء عليه ... تعود وتجدها من دون نبض ... وقد غادرت العمر امنة مطمئنة ...

أمي ماتت ... والذي تبقى الذكريات منها , وها أنا جالس أمام الأردن بكل تعبه بكل الامه ... بكل من خذلوه ومن لم يخذلوه , بكل من سرقوه ومن لم يسرقوه بكل من صادروا فيه الحلم ومن لما يصادروا ... جالس انفخ له على الحساء وأطعمه .. مثلما كنت أفعل مع أمي , وفي كل رشفة أدعو له .... وواثق أنه سيفيق مثل نمر جامح لا تعيقه ... الفيافي ولا الحواجز ..سيفيق حتما سيفيق ...

ولكني أسأل برسم تعبي ووجعي أسأل من يرسلون الرسائل , من يهيجون الناس ومن يشعلون النار .. من يوقدون الفتنة .. أسألهم ما هو شعورك وأنت تسكب الحساء ساخنا لاهبا في فم أمك المتعبة ...هل تطعمها أم تزيد وجعها .... أنتم كذلك تفعلون مع الأردن تزيدون وجع المريض وتزيدون وجع وطني ..

الحب ليس أذى ... في قواميسنا لم يكن الحب يوما ضربا من ضروب الأذى , الحب أن ترمي روحك .. لأمك عبر الهواء المنبعث من صدرك لملعقة الحساء ... وتقول في خاطرك وجعا :- يا ليت أن العافية تقسم .. لقسمتها بيني وبينها ..ولتأخذ كل عافيتي وسأكون راضيا ....

حماك الله يا وطني ...