العنوان هو العتبة الأولى للنص، فكيف إذا كان هذا العنوان شائكا ولافتا يضم في جنباته مجموعة قصائد اختيرت لها عناوين ذات دلالات كبيرة.
تنضوي القصائد في مجموعة «فليكن» للشاعرة د.إيمان عبدالهادي (وزارة الثقافة، عمّان، 2015) تحت محاور أساسية، هي: «من حيث أنت»، و«في شهوة الإهداء»، و«ما يضاء به»، و«في وضح الكينونة»، و«يخيل في عتمتي». وكل تلك العناوين الرئيسة اندرجت تحتها عناوين فرعية تصب في دلالات خاصة.
وما يلفت في هذه المجموعة أن عنوانها جاء لافتا جدا، فهو عنوان مميز ويثير الجدل. كلمة واحدة مبدوءة بالفاء الاستئنافية مقرونةً بالفعل «يكن»، الفعل المضارع المقترن بحرف النصب اللام. فهذا العنوان المكون من كلمة واحدة يشي بدلالات كبيرة وكثيرة أولها ما يوحي بأن هناك جملة شرطية كانت قد تكونت من حرف الشرط وفعل الشرط المحذوفين. ثم جاء هذا العنوان. ويمكن القول إن هذا النسق كان مكونا أو مرصوفا على النحو التالي: إذا حدث كل هذا فليكن...!
وربما جاز للمرء أن يتكهن أن «فليكن» جاءت جوابا لذاك الشرط مقترنة بالفاء للدلالة على اللامبالاة في مواجهة الفعل السابق الذي حدث ونحن كقراء لا نعرف عنه شيئا. إن عبارة «فليكن» تدل من ضمن دلالاتها على أن الشاعرة تصرح علانية أنها لا تأبه كثيرا بما سيكون من رد فعل أو مواجهة أو مقابلة وكأنها تعلن أنها قادرة على أن تتحدى كل ما هو قاسٍ أو مفاجئ أو صادم ولو على صعيد اللغة على الأقل، وكأنها كذلك تترك للقارئ أن تنفتح له وأمامه كل التأويلات، ومنها على سبيل المثال: «فليحدث ما يحدث.. إذا كان كل ذلك قد حدث وانتهى زمن حدوثه سواء أكان عظيما أو غير عظيم، فليكن وليتم حدوثه»، والملاحظ أن الجواب للشرط الذي جاء مقترنا بالفاء الواقعة جوابا للشرط يحمل الإجابة التي أرادتها الشاعرة أو جزمت أنها تمت، فلم تخصصها بأقواس صغيرة ولم تفتحها على التأويل من خلال نقاط فراغ: فليكن/ هكذا!، مما يدفع بالمتلقي أن يضع كثيرا من التأويلات إزاء قراءة المجموعة.
ومنذ القراءة الأولى يجد القارئ في المجموعة كثيرا من الإشارات التي يحملها شعر المتصوفة، فها هي عبارة ابن عربي وكأنها تحمل معنى الإهداء «مَن أحبك من حيث أنت فقد أحبك»، وهي عبارة تنم عن شفافية مطلقة لدى الشاعرة وتؤكد على فعل الحب غير المشروط لا بالزمان ولا بالمكان. وقد تركزت ملامح النص الصوفي في توظيف الإشارات الصوفية، وفي اللغة الشفافة المفضية إلى دلالات كثيرة. فمن المعروف أن التجربة الشعرية الصوفية تبتعد عن المألوف في الأشكال والألوان والأحوال، وأن الخطاب الصوفي كما هو بديهي يتجه إلى الله والانشغال به ومخاطبته والبحث عن الطرق الموصلة إليه. تقول الشاعرة في قصيدة «حرج إضافي»:
«يا مالكَ الملكِ انتفيتُ من البلادِ
ولستُ أعلمُ لي مكاناً غير بابكَ
أتّقي العتبات بالنزر اليسير من الوقوفِ
أهشُّ بالصبرِ الجميلِ على تراتيلي وحبي».
هذه المناجاة الواضحة الصريحة المباشرة هنا «يا مالك الملك» مأخوذة بتناصّ من القرآن الكريم للدلالة على قرب المناداة والمناجاة. كما توظف الشاعرة في قصائدها عبارات من القاموس الصوفي من مثل: العتبات، التجلي، الحديقة، الحلول والحجاب.
وتستهل إيمان عبدالهادي مجموعتها في حالة من حالات الإحساس بالألم، فهي مشغولة بالهم الإنساني وبمصير الإنسان، ويتجلى ذلك من خلال حديثها عن حالة الارتباك والألم التي يعيشها الإنسان، وهي ضمن هذه المنظومة تحاول البحث عن الخلاص من خلال التوق إلى الوصول، فجاءت تأملاتها مليئة بالهواجس والتساؤلات عن هذا الكون المتشابك منطلقةً في كثير من جوانب رؤيتها من الرؤى الصوفية حيث الروح هي حجر الأساس في الرؤية، ويتمثل ذلك تمثلا واضحا في رغبة الروح الخروج من البعد الحسي إلى البعد الروحي. ففي قصيدة بعنوان «ألم يقل المتصوف» تقول:
«ألم يقل المتصوف إن الخفاء وريثُ الظهور
فقربٌ: حجابٌ، ونأيٌ تجلٍّ أمام التجليْ
ومَن لي مَن ليْ؟
بجرةِ دمعٍ يحمِّلُها المتصوف غيماً
إذا أرهقتهُ الهواجرُ، أو نزَّ فيه البكاءُ».
ففي هذه المقطوعة تبرز المباشرة في التعبير عن تلك الملامح بدءا من عنوان القصيدة التي جاء القول فيها على لسان المتصوف ذاته من خلال مخاطبة الذات الإلهية حول التجلي والخفاء والقرب والنأي، ولم تكتفِ الشاعرة بما في ذلك من تضاد، بل أمعنت في توظيف العبارات التي يتكئ عليها الصوفي ومنها: «القرب: حجاب»، لكنها عبرت عنها بتوظيف التضاد للكشف عما هو مخبوء وكشفه، فهذا الحجاب يقابله الظهور، وهذا النأي يقابله التجلي.. وتستمر الشاعرة في تقصّي حالة التصوف عند هذا المتصوف الذي تتجاذبه رغبة عارمة في القول والبوح، وجاء الدمع تعبيرا عن التوق للحظة التجلي أو اللقاء.
ومن ملامح التوظيف الشديد لثيمات النص الصوفي، اتكاء الشاعرة على لفظة العتمة، ومعروف كم للعتمة من حضور في عالم المتصوف. والملاحظ أنها قاربت بينها وبين تلك العتمة من خلال نصين مرقمين: «عتمتي 1»، و«عتمتي 2»:
«أنا عتمتي
فأضِئني بمحضِ التفاتِكَ
أو فأضِئني بمحضِ احتمالِكْ
ضريرٌ، وينقصني من بصيرتِكَ الأُخرويَّةِ
ما أَستعينُ بهِ في المسالِكْ».
والملاحَظ هنا رغبة الشاعرة الأكيدة في الخلاص من العتمة بضدها، بل وبالتركيز على ضرورة حضور الضوء الذي جاء هو الآخر مرتبطا بالالتفات أو بمحض الاحتمال، وكلاهما يحملان توقا كبيرا في أن تتغير تلك العتمة التي تسيطر على كل شيء من حول الشاعرة.
وفي العتمة الثانية تَكرس لدى الشاعرة إحساس برغبة أكيدة في الرحيل عن هذه العتمة والانتقال إلى عالم الضوء الذي يملكه المخلِّص بيديه، إلا أنه هنا تتوضح فيه بعض ملامح الضوء الذي يهزم عتمتها، ونجد الشاعرة قد رسمت المشهد كما تشتهيه بشفافية عالية تنم عن رغبة أكيدة في الخلاص من العتم والسعي إلى عالم ذاك المخلِّص:
« أسيرُ إلى آخري...
لا سوايَ معي، لا أريدُ
ألقِّطُ من هامةِ الكَرْمِ، دنَّ الصّلاةِ
وقد أستزيدُ»
إلى أن تقول...
«أنا عتمتي ووحيدٌ، وعتمي وحيدٌ
كلانا أنا والظلام (معاً) في الظلام
وحيد».
إن العتم هنا يتلبس الشاعرة إلى أن يندمجا ثم يصيران شيئا واحدا، لكنَّ حلم الخلاص من العتمة يظل يلح عليها ولا يفارقها في كل ثنايا الخطاب لتلك الذات التي تحبها وتتعلق بها، ولذلك تعود في خطابها إليه قائلة:
«أبوءُ بإثمي
بما صرتُهُ ذاتَ يوم على متنِ حلمي
بهامِش كلِّ السّمواتِ، حيثُ انبثقتُ وأوَّلتُ نجمي».
فهي هنا تعترف لتصل إلى النجاة والخلاص من هذه العتمة، فيتشكل الحلم، أو تسعى هي إلى تشكيله ليظهر متمثلاً به هو المخلّص المنقذ، هو صاحب الملاذ والعودة الأخيرة بعد المرور برحلة العذاب تلك، لكنها تختم في نهاية المجموعة بالعودة مرة أخرى للعتمة التي تشكل عند الصوفي ربما لحظة الإنارة والتواصل الخفي العميق الذي لا يحس به أحد سواه هو ومن ينشد وصله فتقول:
«أنا عتمتي
لا أريدُ انتظاراً لما لستُهُ يا أنايَ
سأُصبِحُني حين يأتي الصباحُ
وحين يُليّلُ فيَّ العروجُ
سأسري إلى عتمتي وأعودُ».
من الواضح أن الشاعرة ترى في هذه العتمة غير ما يراه الآخرون، فهي التي ستفضي بها إلى الصباح وتخلّصها من التشتت والضياع. إنها عتمة مغايرة لما نعرفه من تيه وضياع.. إنها عتمة العودة التي وصلت إليها أخيرا، قبل أن تنتقل إلى عوالم جديدة.
ومن الثيمات الأخرى التي وظفتها الشاعرة من قاموس الصوفية كلمة «الحديقة»، والتي تعني عند المتصوفة الشيء الكثير، ففي قصيدة «الحديقة فستانها» هناك تمهيد ينقلنا إلى أجواء تلك الحديقة لنلج العتبة الأولى فيها وإليها، فهي ذات ورورد ندية، وحين ننتقل للمتن نجدها تحكي عن علاقتها بتلك الحديقة:
«الحديقة؟
أبدأُ من نصفِ هذا الشَّريطِ
لأني إذا سرتُ فيها إلى آخري
سوف أترك دمعي على وردِها عالقا
كالنّدى يتذكّرُ غيمتَهُ».
فالحديقة هنا تحكي عن علاقة خاصة، فهي كما تصفها مليئة بالأزهار والمحبين:
«وهي حُبلى بأزهارِها
لقَّحتْ عُودَ شمسٍ
وباءت بماءِ النّدى في الخدودِ
كأنَّ دموعَ المحبينَ عالقةٌ منذُ أكثر من غربتينِ
على وجنَةِ المنحنى».
«فَلْيَكُن» لإيمان عبدالهادي.. ثنائيّة العتمة والضوء
11:45 9-6-2017
آخر تعديل :
الجمعة