أ. د. كميل موسى فرام
الواقع التعليمي في الأردن يحتاج لمراجعة شاملة، جذرية، وبعيدة عن مبررات التراجع والاخفاق التي عصفت بمفاصل التعليم بشقيه المدرسي والجامعي، وانعكست بالمحصلة النهائية على مستوى الخريجين بالرغم من الجهود الحثيثة التي تبذلها الادارات المتعاقبة المسؤولة عن هذا القطاع الحيوي والتي تعتمد على اجتهاد الرأس الهرمي للمؤسسة بالرغم أن قرارات التغيير والاجتهاد تصدر باسم اللجان المتخصصة، وربما من الحكمة أن نركز الحديث بمقالة اليوم عن واقع التعليم المدرسي منذ دخول الطالب للمدرسة بالصف الأول الأساسي حتى اجتيازه امتحان الثانوية العامة بمسمياته المختلفة، لعلنا نشخص محطات الوهن التي نخرت بالعملية التعليمية، ضمن فصول التخبط والحيرة، والاعتراف بواقع التعليم المتواضع بيومنا هذا، يمثل مفتاح الفصل الأول والمقدمة الصحيحة لنوايا التغيير.
مثلث أركان العملية التعليمية من العنصر البشري شركاء حقيقيون بواقع العطاء والنتيجة؛ الطالب، الأهل، والمعلم، بينما الأثر المحوري المكمل للدور والمتمثل بالمدرسة والمنهاج يحتاج لوقفة ومراجعة على أسس من بنود التحليل.
المثلث البشري ذو الأضلاع المتساوية بالطول والفعل، يلعب فيه الطالب دور المحور الأساسي المحرك للعملية التدريسية لأنه في بورة الحدث باعباره القاسم المشترك، ولاكتمال دوره لا بد من توضيح الدور الأساسي للأهل كشركاء ينعكس فعلهم على مستوى التحصيل، وأدعي لنفسي من باب الاجتهاد بوجود خلل وشرخ عميق في هذه العلاقة، أضعف فرص صقل الموهبة للطلبة لأن العلاقة اليوم ومهما كان مبررها هي علاقة سطحية ضعيفة تفتقر للثقة وتعتمد على تبادل الاتهامات، حيث أحوال الطرفين والظروف الحياتية تغلف باب الحذر والانتباه لتمنع الابتكار وتحجب رؤية الواقع لتجعل الجميع يتخبط بالبحث عن أعذار، لنجد أن اهتمام الطالب بالتعليم اكتنفه اللامبالاة بتوافر وسائل التواصل الاجتماعي مضاعفا اليه إدراكه بضعف تبادل المعلومات بين الأهل والمدرسة، كما أن وجود العديد من ملفات التهديد التي تعصف بمنطقتنا من حروب ودمار قد سرق منا جزءا من أركان الاهتمام، وربما أن واحداً من نتائج الحروب بالمنطقة والتي استخدمت فيها أحدث أنواع أسلحة الدمار قد ساعد على التغيرات البيئية والمناخية والتلوث ليعطل جينات الدماغ البشري في الاستيعاب والابتكار، ليشاهد على أرض الواقع النماذج السلبية من قبل الأهل بتوهين الاهتمام بمبادىء صقل الشخصية المفكرة التي تتمتع بالذكاء، احترام الوقت، الصدق، البحث، التعاون، إضافة لاحترام الكلمة وحروفها وأرقامها التي تمثل رصيف النجاح، ومهما وجدنا من دور متواضع للنتائج السلبية للعملية التعليمية، إلا أنه يمثل الضحية الأولى لهذه المعادلة وهو الرقم المهمش بقيمته المستقبلية، ولا غرابة من وجود فئة من الطلبة قد وصلت لمراحل الدراسة الثانوية بمستوى محو الأمية أو أدنى من ذلك بمرورها عبر نظام دراسي يسمح بالنجاح التلقائي أو الاجباري لظروف متداخلة. عندما تعود الذكريات لستينات وسبعينات القرن الماضي لأذكر من باب الأمانة أن الفرص التحصيلية لجيلنا عبر مقاعد الدراسة كانت أفضل بكثير عنها اليوم، بالرغم من محدودية الامكانات في تلك الفترة، فالطالب كان المحور الأساسي والهدف الأوحد للعملية التدريسية.
العنصر الثاني الشريك بالأمر هو الأهل بتداخل وتفاعل مع الإبن ليصعب الفصل بدور كل منهما لظروف التكامل، فتراكمات الحياة اليومية، الظروف الأقتصادية الصعبة التي تعصف بالجميع، الزيادة العشوائية المضطردة بعدد السكان بدون برامج مستقبلية تحدد وتوفر البيئة المدرسية المناسبة في المنزل من حيث التزام الأهل بمساءلة الابن عن يومه الدراسي، الواجبات المدرسية اليومية، الاشراف على التحضير الجيد للامتحانات بمسمياتها، المتابعة الدقيقة لتفاصيل التقدم بمستوى الابن ومدى الانضباط والاحترام لقوانين المدرسة والدراسة، تحليل نتائج الاختبارات اليومية والفصلية، اقناع الذات بمسؤولية المدرسة والدولة عن القطاع التعليمي، الاكتفاء بدور هامشي لمبررات الاخفاق دون بذل جهد يوقف النزف أو يساعد بالتشخيص والعلاج، إضافة لممارسة ثقافة الواسطة والمحسوبية أو الاقتناع بألوياتها كعامل تثبيط على فرص التفكير والابتكار لصقل خلايا الابداع، عوامل اجتمعت وساعدت على ضعف دور الأهل بمستقبل الأبناء، وربما من المفيد أن أذكر بخلل بديهيات العلاقات العائلية التي تثير زوابع وبراكين الضغط على الأبناء بما نشاهده اليوم من زيادة بنسب التسرب من الانضباط المدرسي.
العنصر الثالث والأهم هو المدرسة والمعلم الذي يمثل قلب العملية التدريسية، فهما وحدة واحدة لا يمكن فصلهما، حيث انعكست الظروف الحياتية الصعبة على الأداء، وهناك قناعة خالدة بأن مهنة التعليم هي المهنة الأهم بتقدم الشعوب بما يحمل منتسبوها من رسالة سماوية انسانية بتعليم الأجيال، زراعة الحرف وتكوين الكلمة وغرس مختلف أشكال العلوم في بيئة العقل البشري للطالب تحتاج لحكمة وتفان لتنعكس في النهاية على المستوى التحصيلي، ولا يمكن أبدا للوسائل الحديثة التي توفر المعلومة بسهولة أن تكون بديلا عن الدور القيادي للمعلم لأنه الأقدر على تقدير مستويات الذكاء وتحسين فرص التعلم بما يملك من مواصفات، يترجم أهدافها بفنون التقدم بمستوى التفكير والأداء، لكن الظروف الحياتية الصعبة للمجتمع أضعفت الدور والأداء وإنعكس ذلك على المستوى المتواضع والضعيف للأجيال المتعاقبة، بوقت أصبحت وظيفة المعلم مهنة لا يمكنها توفير الحد الأدنى من متطلبات الاكتفاء لممارسها، تخلخلت بأثرها فرص الانتساب اليها حتى بدت مهنة تحتل مرتبة متواضعة بأولويات الاختيار بالرغم من قدسيتها بظروف واقعية جعلت من المعلم يبحث عن وظيفة مساعدة لتوفير متطلبات الحياة الكريمة مهما كان تصنيفها، قطار دائري يحاول قبطانه تحديد نقطة البداية لتقدير أسس العطاء، فهناك علاقة يكتنفها الحذر بين المهنة وصاحبها بعد أن افتقر المردود المادي لتوفير متطلبات الأمان، سرعان ما انعكس ذلك سلباً على نفسية المعلم ودرجة العطاء خصوصا بوجود ثغرات من الأركان المكملة للمعادلة التعليمية.
النتيجة النهائية اليوم والمؤسفة التي علينا الاعتراف بها لوضع سيناريوهات الحلول هو المستوى المتواضع للطلبة بسبب الأداء المتخبط من الجانب البشري، وسوف نحاول الاجتهاد باقتراح حلول واقعية بعد تحليل دور المناهج والمدرسة بواقع العملية التدريسية وهو موضوع الحديث لمقالات قادمة.