الانجاز التاريخي لا يتشكل في فراغ , ولا يبرز على حين غفلة ,و إنما هو وليد عوامل و خبرات تتنامى بمرور الزمن و تزداد نضجا فتؤول الى تحقيق ذلك الانجاز وفي ضوء ذلك يمكن ان ندرس الانجازات التي نفذها رجل كصلاح الدين سواءً في معركة حطين و تحرير بيت المقدس عام 583ه او في عمليات استثمار الفوز التي اعقبتها و آلت الى تضييق الخناق على الصليبيين في الشام و فلسطين هنا يبدو ان البطل وحده لا يقدم التبرير الكافي للانجاز - و الجمهور وحده لا يكفي - ولا بد من إضافة بعد ثالث تمثل في تراكم الجهد او تنامي الانجاز التاريخي في سياق من اجل الوصول الى نتائج مقنعة.
لقد اخترق الصليبيون عالم الاسلام (الجزيرة / الفراتين / الشام / فلسطين / مصر و تمكنوا من اقامة دولتهم في بيت المقدس و كانت حالة الاصطراع و التمزق واحدة من اهم العوامل التي مكنت لهم في الارض.
ان بمقدور اي دارس لعصر الحروب الصليبية ان يضع يده على مؤشرات تؤكد التوجه الوحدوي للأمة على مستوى القيادة و القاعدة و منها زوال الكيانات المحلية, و زوال انشطار الشام و مصر وحدة الجماهير - وحدة القيادة كما ان بمقدور اي دارس للمرحلة التاريخية نفسها ان يضع يده على صيغ تنفيذية لهذا التوجه الوحدوي ندرجها في اطار تحالفات على مستوى القمة بين ولاة السلاجقة على الموصل وامراء الجزيرة الفراتية, والاستقلال في اتخاذ القرار و الضم الوحدوي على يد عماد الدين زنكي في الجزيرة و شمال الشام, و تكوين الامة المقاتلة (والذي تم على يد نور الدين , و عماد الدين زنكي) و الضم الاتحادي الذي تم على يد الناصر صلاح الدين في مصر و الشام و الجزيرة و الاناضول.
لقد أصبحت حلب و هنا نشير الى دورها التاريخي و الهجوم الذي تتعرض له, هدفا للهجوم الصليبي عام 518هـ حيث فرض الحصار عليها مما اضطر قيادتها الى استدعاء أمير الموصل الى حلب- الذي لبى النداء و دعا الى الجهاد و دخل حلب - لإن حلب هي القاعدة الثانية بعد الموصل، و هذا يفسر لنا ايضا اهمية حلب و الموصل و التكامل فيما بينهما والأخطار التي أحاقت بهما الآن.
وبعد وفاة اخيه آل الامر الى عماد الدين زنكي ، الذي دخل حلب عام 522 هـ ، و كان شعاره ( الوحدة و الجهاد ) ، كانت عين عماد الدين على امارة الرها و التي سقطت بيده ، مما ادى الى حملة صليبية جديدة وصلت بعد وفاة عماد الدين و تولى ابنه نور الدين زنكي. و استطاع ان يوجه الظروف التاريخية بتجميع القوى الاسلامية بعد القضاء على عوامل التجزئة و توحيد المدن و الامارات - الشام و من ثم مصر - مما مهد الطريق لصلاح الدين. ان خطة نور الدين كانت تكوين الامة المجاهدة القادرة على مواصلة العطاء و الفاعلية - مكملا بذات حلقات الاصلاح الاداري والاجتماعي و التربوي و الثقافي بالاضافة الى البعد العسكري فلن يتقدم لديه الا ذوو القدرة و الفضل على الانجاز الامين المسؤول - واولى المؤسسة القضائية جل اهتمامه - وخول القضاه صلاحيات واسعة و منحهم استقلالا تاما وانشأ دار العدل لمحاسبة كبار الموظفين - وارغامهم على السلوك السوي او طردهم و استبدالهم اذا اقتضى الامر و كان يطالب برفع قصة كل مظلوم اليه حتى ترتاح الرعية و تنفذ ما يطلب منها و كان يجلس بنفسه مرتين او اربع مرات - و لم يدع منكرا يسود جانبا من جوانب الحياة الاجتماعية الا عمل على ازالته. لم يشأ ان يقاتل عدواً في الخارج بينما يعشعش الخراب في الداخل.
وكان يحوط نفسه برقابة صارمة على احوال الدولة العامة - ثم اصدر اوامره بالغاء الضرائب و المكوس غير الشرعية و المنطقية و ضمن الغذاء الاساسي لافراد رعيته - وفعل نائبه في مصر صلاح الدين ما فعله في الشام و الموصل و اصبح صديقا للفقراء يصفه ابن كثير بانه كان ( عفيف البطن - و الفرج - مقتصدا في الانفاق على اهله و عياله حتى قيل انه ادنى الفقراء في زمانه اعلى نفقه منه -). واذا جاء مجلسه احد الفقراء أو الفقهاء أجلسه معه على سجادته ، وإذا أعطى أحداً منهم يقول (هؤلاء جند الله) و القوائم الادارية في دولة نور الدين تشير الى كثير من الاسماء التي لمعت في عصره - و لم يكن اصحابها الا من عامة الناس. كان يوزع المال مباشرة على المحتاجين و ينشئ المؤسسات الخدمية بكل انواعها و يحث على الوقف. كان يرى ان الدولة جهاز خدمة و انجاز لا اداة قسر و استنزاف كان يدرك ان تحرير الارض و توحيدها ليس عملا سياسيا فحسب بل هو مواجهة و صراع حضاري و لا بد من توازن بين متطلبات الروح و الجسد و العقل و كان العلماء بالمنزلة الاولى لديه.
ما قدمناه هو مقدّمة لما سنصل اليه في الفترة اللاحقة اي أن الجيل بحاجة الى إعداد يؤهله للنصر , ولا غرو, أن تخصص الجامعة العبرية مساقا خاصا لدراسة الحروب الصليبية
وأدبها, حتى يحول العدو بين أي قوة - واستعدادات يمكن ان تؤدي الى وحدة الامة و تماسكها و حتى تبقى القدس و فلسطين في ايديهم , وما نراه من صراع في المنطقة هو جزء من هذا المخطط - وللحديث بقية.
Email: DrFaiez@hotmail.com
مواضيع ذات صلة