نتعرض على مدار الساعة لسيل لا يتوقف من الصور والأخبار تهز مشاعرنا ، عن كوارث ومجازر ناجمة عن الحروب وعمليات التطهير العرقي ،وجرائم تعذيب وحشية داخل سجون الطغاة ، ويحدث أن ينجو بعض الاشخاص بأعجوبة من تلك المجازر ، أو عند وقوع زلازل وسقوط طائرات وحوادث سير لكن الحال يختلف عندما يعيش المرء التجربة بنفسه ، ويكتب له « ولادة ثانية» ،بكل ما يصاحب ذلك من مشاعر، كمن ينجو من انفجار ، وفي لهجتنا المتداولة يقال فلان «خرج من فم الموت»، والبعض يقول» شوفت الموت بعيوني» أو» الله كتب له عمر جديد «.
السيارة وسيلة نقل عظيمة ،لكنها تتحول أحيانا الى أداة قتل بشعة ،خاصة وسط أزمات السير الخانقة وغياب الالتزام بقواعد المرور بالاضافة الى رداءة الطرق ، وإحداها «طريق العارضة» التي تربط العاصمة والسلط بالاغوار الوسطى – لواء ديرعلا ، طريق جبلية وعرة تكثر فيها المنعطفات ، ضيقة تتسع لسيارتين فقط بالاتجاهين ، السير فيها يحتاج الى حذر شديد، وقد تعب سكان الاغوار لكثرة مطالبتهم الحكومات، بتوسيع الطريق وإضاءتها ،وهي شريان حيوي يخدم مئات الالاف من المواطنين.
أنا شخصيا أعرف الطريق جيدا وأسلكها باستمرار ، كنت عائدا من الغور الى عمان ، وكان أمامي باص نقل «كوستر» محملا بالركاب يسير ببطء ، وعندما بدأت تجاوزه فوجئت بسيارة «بك اب» تداهمني بسرعة هائلة ، هو باتجاه النزول وانا بالاتجاه المعاكس ، وكاد يصعد فوق سيارتي ، كانت المسافة ربما سنتيمترات ، الباص بجانبي وعلى يميني وادي سحيق والجبل الى يساري، جميع الخيارات مرة.. كان التصادم شبه حتمي ، ولو كنت أقود طائرة لقفزت بالمظلة.
هناك روايات عديدة لاشخاص يقولون أنهم عاشوا لحظات الموت فطبيب الأعصاب الاردني الشهير الدكتور» ابراهيم صبيح « قال في برنامج تلفزيوني: «روحي اخترقت الجدران ،ورأيت جسدي وأنا ميت»عام 1973 عندما كان عمري 21 عاما ،حيث أصبت بنوبة قلبية نتيجة شراهتي للتدخين ،ثم فجأة سمعت الدكتور يقول لي: حمد الله على السلامة بعد أن حقنني بالأدرينالين». ويعتقد صبيح أنه كان معلقا بين الحياة والموت، لأن الأجل لم يحن بعد، لذلك رجعت الروح مرة أخرى إلى جسده.
وهناك “عدد كبير من الأشخاص يقولون: «إنهم عاشوا تجربة غريبة تتضمن مجموعة من العناصر المتشابهة المعروفة باسم “تجارب على عتبة الموت”، تبدأ بشعور الإنسان بأنه يسبح خارج جسده، وبعدها يعبر داخل نفق مظلم بسرعة لا توصف».
سافرت جوا آلاف الكيلومترات بكل ما يرافق ذلك من هواجس ، وأمضيت داخل سفينة سياحية آلاف الكيلومرات لمدة تسعة أيام بلياليها ، كان البحر يغضب في بعض الاحيان ،وهدير الموج يذكر بكارثة» تايتنيك» ،لكن ذلك كله لم يشعرني بالوقوف على حافة الموت، كما حدث معي في الساعة الرابعة والنصف عصر الاربعاء الأول من شباط 2017.
الموت حقيقة مطلقة تطال الجميع، }أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ { - النساء78 ، وهو جزء من الغيب الذي يؤمن به كل مؤمن ، والانسان بطبعه محب للبقاء والحياة.وقد شغلت الرغبة في تعرف حقيقة الموت ،أذهان العلماء والفلاسفة منذ القديم، وكان الانسان دائما أسير الخوف من الموت.
وفي نظر بديع الزمان سعيد النورسي فان الموت « نعمة «، وبداية مرحلة حياتية أشرف وأسمى من الحياة المرئية المألوفة. ومثل هذا الإحساس يكسب الإنسان شجاعة خاصة، لمواجهة المشاق واقتحام الصعاب.
لكن حسب فلسفة سارتر الوجودية ،فان الموت هو مصدر خوف الانسان وصراعه وحروبه، ومصدر أمراضه وفقره وقهره. ويرى أن الأجوبة على حيرة وقلق الإنسان أن يعيش واقعه الحاضر،دون الشعور بالقلق من المستقبل،من الموت، الألم...
كانت ولادة جديدة لي «رمزية» ، عشتها بلحظات عصيبة ، وكيف يتصرف الانسان عندما يباغته خطر داهم ، يقربه من الموت «غمضة عين» ، لكن إرادة الحياة تتغلب على الخوف من الموت ، فلا أحد يرغب بالموت حتى من «يجاهدون «على الجبهات عن الوطن والعقيدة ، فاحتشدت داخلي قوة هائلة، وكان علي التصرف بسرعة البرق وبأعصاب حديدية في تلك اللحظات» لم أشوف الموت بعيوني» كما يقال ، لكن الخيار الوحيد كان الاصطدام بالباص.
theban100@gmail.com
مواضيع ذات صلة