ثقافة وفنون

خمش والعرموطي يستعيدان حكايات الهجرة وبدايات عمان

من القصص الطريفة التي ما يزال يذكرها الباحث في شؤون الشركس عمران خمش أنّه وفي إحدى الليالي، حيث كان أهله ييسكنون بجانب «سيل عمان» قرب المسجد الحسيني عام 1945-1946، حملته أمه وخرجت به إلى فناء الدار، فقد كانوا يسمعون أصواتاً عالية وضجة غريبة، فهم منها أنّ الحوت خرج من البحر، وهو ينطلق للقمر ليأكله، وأنّ أهالي عمان استخدموا كل ما لديهم من الأدوات وأواني الطبخ، وقاموا بإطلاق الرصاص باتجاه القمر، وأنهم كانوا «يطقطقون» على الطناجر والصحون لإرهاب الحوت، ومنعه من التهام القمر!

ويضيف خمش: ويبدو أنّهم أفلحوا؛ فما يزال القمر ينير عمان الجميلة!!... وقد علم في ما بعد أنّ وراء هذه الأسطورة القديمة تفسيراً لحالة خسوف القمر واتهاماً للحوت بأنه التهم القمر، وأنّ الضجة والأصوات المرتفعة هي التي منعته من ذلك؛ فالقمر في حالة الخسوف يختفي مدة قصيرة ثم يعود مرة أخرى، وهي آية من آيات الله.

تلك كانت إحدى شذرات الباحث خمش في «ليلة شركسيّة» بامتياز، استضافته فيها الجمعيّة الأردنيّة للعلوم والثقافة، حضرها رئيس الجمعيّة الوزير الأسبق المهندس سمير الحباشنة، نظّمها وأدارها المؤرخ الباحث صاحب موسوعة عمان عمر العرموطي، الذي ضمّنها قصصاً وحكاياتٍ كثيرةً عن الشركس ورجالاتهم وإسهاماتهم في بناء عمان مع كلّ هذا الطيف المجتمعيّ الملوّن بألوان جبال عمان.

الأمسية التي تفاعل معها الحضور لقصص محدّثهم المؤرخ المحافظ الأسبق خمش الذي استقى تفاصيلها من أجداده وأهله، فتفرّغ بعد تقاعده من القوّات المسلحة الأردنيّة ليجمع آثارهم ويعرّف بتاريخهم وظروفهم منذ هجرتهم الأولى في رحلة شاقّة قديمة أسهموا في ما بعد ببناء عمان، وهو ما أكّده العرموطي عضو الجمعيّة الذي قدّم الضيف في هذه الأمسية «العمّانيّة» بامتياز، حيث الضيف خمش مؤرخ شركسي وهو من أبناء عمان، ومن الشراكسة الذين أسهموا في بنائها، ويحتفظ في ذاكرته بالعديد من الصور والأحداث والأخبار التي تتعلق بهذه المدينة، مستعيداً رجالات الشركس من البناة الأوائل الذين كان لهم دور كبير في تأسيس الدولة الأردنية الحديثة، وعلى رأسهم سعيد باشا المفتي وميرزا باشا والفريق الركن عزت حسن قندور واللواء فواز ماهر برمامت والفريق الركن محمد إدريس ومولود عبدالقادر ناغوج واسماعيل بابوق أول رئيس لبلدية عمان، وغيرهم الكثير ممن لا يتسع المجال لتعدادهم، حيث الحديث عن عمان له نكهة خاصّة، فتاريخها جميل ورجالاتها كانوا بحجم التحديات وسطّروا لنا تاريخاً مجيداً ناصعاً نعتزّ به، وفي هذا السياق قال العرموطي، الذي تسري في عروقه دماء شركسية حيث جدّته لأمّه شركسيّة، إنّه كان قد أصدر قبل ثلاث سنوات أربعة أجزاء من موسوعة عمان أيام زمان بحجم أكثر من أربعمئة صفحة، مبيّناً أنّها اشتملت على فصول للشركس ورجالاتها الذين تحدثوا عن عمان وعلاقتهم بها كمؤسسين؛ مبشراً بأنّه يصدر في مطلع الشهر القادم أربعة أجزاء جديدة، من الموسوعة التي استغرق في إنجازها حوالي عشر سنوات، لتكون المرة الأولى في تاريخ الوطن العربي التي يتمّ فيها تدوين سيرة عاصمة عربية بالذاكرة الشفوية.

المحاضرة، التي حضرها حشدٌ من المثقفين والكتّاب والأكاديميين والوزراء والسفراء السابقين ولأعضاء الجمعيّة الخيرية الشركسيّة ونادي خريجي نالتشك، ووزيرة الثقافة السابقة نانسي باكير والنائب السابق اللواء المتقاعد خير الدين هاكوز والفنان المعروف أشرف أباظة،..باركها رئيس الجمعيّة الحباشنة معرباً عن تقديره للباحث خمش، مؤكّداً أنّ الشركس جزءٌ رئيس لا يتجزّا من نسيج الدولة الأردنية، وأنّهم أسهموا في بناء الأردن الحديث، فهم محلّ اعتزاز وطني أردني وأنموذج لحالة التنوع الثقافي في الأردن، والفسيفساء الجميلة في ظلّ قيادتنا الهاشميّة الحكيمة.

سيل عمان

تحدّث المؤرخ خمش عن وصول أوائل العائلات الشركسية التي هاجرت من البلقان إلى الأردن وإلى عمان، حيث سكنوا في منطقة المدرّج الروماني على سيل عمان عام 1878م، وهناك بدأوا بالتعرف على رجال العشائر الأردنية البدوية خلال عملية سقاية مواشيهم من الينابيع الموجودة على سيل عمان والتي كانت منتشرة على طول مجرى سيل عمان من رأس العين حتى المدرّج الروماني مكان سكناهم، وتطرّق خمش إلى بداية الزيارات من شيوخ العشائر إلى الشركس، حيث استضافوا رجال الشركس الذين قابلوهم على ينابيع المياه الكثيرة والمنتشرة على مجرى سيل عمان، وهناك تعرفوا على مساكن وجهاء العشائر البدوية وشاهدوا «الشِّق» الكبير وأماكن الجلوس الموجودة داخله وعرفوا معنى «المضافة» وما يجري فيها، لا سيما في ليالي السمر، كما لاحظوا أنها تشبه كثيراً مضافاتهم التي تركوها في بلاد القوقاز، حيث كان هناك مكان واسع لالتقاء كبار العائلات للتشاور في الشأن العام والتسامر في ليالي الشتاء الطويلة...وعندها بدأ التفكير لدى وجهاء الشركس بإنشاء مضافات لهم في عمان، وكان من أوائل من أقام هذه المضافات في عمان وجهاء قبيلة الشابسوغ ومنهم: إلياس خورماومضافته كانت في سفح جبل القلعة، ومحمود بشماف وكانت مضافته في بداية شارع الشابسوغ من جهة المدرّج الروماني، وداود زتشه ومضافته في منتصف شارع الشابسوغ قرب المسجد، وحسن شكري ناتخوا ومضافته كانت في منتصف شارع الشابسوغ ولا تزال موجودة حتى اليوم كبناية سكنية، وفيما بعد، وصل الفوج الشركسي الثاني من تركيا عبر سوريا، وصولاً إلى الأردن، وهم من قبائل القبرطاي وسكنوا في وسط مدينة عمان حول أطلال المسجد الحسيني الكبير عام 1880م وهم الذين بنوا هذا المسجد في ما بعد.

مضافات أصيلة

ونقل خمش عن جدّه موسى خيري خمش أنّ مسجداً كان الشركس قد بنوه عند الشابسوغ، وكان بعيداً نسبياً عن سكن رجالات القبرطاي، مشيراً إلى بقايا المسجد العمري الذي بني زمن الخليفة عمر بن الخطاب، فكان أن صانوا المكان وحولوه إلى مسجد وأصبحوا يقيمون صلاتهم في فيه، لافتاً إلى أنّ جدّه خيري خمش كان جاء من القوقاز عبر تركيا وسورية إلى عمان مع والده وأشقائه العشرة، فوصل 5 منهم إليها ومات بقيتهم في الطريق. وقال خمش إنّ هؤلاء الأشخاص، وهم من رجالات القبرطاي، بدأوا بإنشاء مضافات خاصة بهم، كان أكبرها مضافة آل المفتي التي كانت موجودة خلف المسجد الحسيني على ضفة سيل عمان بالقرب من مضافة «أبو صلاح الشربجي»، ومضافة آل المفتي التي كان أنشأها المرحوم محمود المفتي وهو والد محمد المفتي «جد سعيد باشا المفتي»، وشرح خمش أنّ هذه المضافة كانت من أكبر المضافات الشركسية، وبداخلها مكان لتحضير الطعام للضيوف، وناقلاً ما ذكره الشيخ محمد الرشيد البدوي في قصّة عن عمان قال فيها إنه ذهب مع والده وعدد من أقربائه إلى مطحنة آل المفتي الواقعة في منطقة المهاجرين لطحن الحبوب وفي المساء عندما انتهوا وحضّروا أنفسهم للعودة إلى قريتهم قرب مادبا مرّ بهم محمود المفتي وطلب منهم إنزال الأحمال (الطحين) بعد أن كانوا حملوه على الإبل، فقال لهم محمود المفتي لن تعودوا إلى منازلكم قبل تناول طعام العشاء ولن تعودوا في هذا الليل، وستبيتون عندنا، فذهبوا إلى مضافته وأكرم وفادتهم.

كما ذكر أنّ مضافةً هامة هي مضافة آل ميرزا التي أقامها ميرزا باشا، وكانت تقع في منتصف شارع الملك طلال غرب المسجد الحسيني في مكان سوق اليمانية الآن، فبقيت تستقبل الأهل والضيوف حتى الأربعينات من القرن الماضي إلى أن توقفت وأصبحت منزلا لآل ميرزا، وفي فترة لاحقة أصبح هذا المبنى المدرسة الثانوية (ثانوية عمان) وهي المدرسة الشهيرة في عمان التي خرّجت عدداً كبيراً من أهم شخصيات الأردن.

ومن المضافات الهامة، ذكر خمش مضافة آل تحبسم قرب المستشفى الإيطالي وعلى سيل عمان مقابل سوق الحلال القديم، وقد أنشأها محمد طاطو تحبسم، ناقلاً ما ذكرته له شقيقته من أنه لم يتناول طعام الإفطار في المنزل وحده طوال عمره، لأنه كان يتناوله في المضافة، وكان يخرج صباحاً إلى «سوق الحلال» ويدعو أحد أصدقائه من رجالات العشائر البدوية الذين يترددون على سوق الحلال لبيع وشراء المواشي.

وتحدث خمش كذلك عن مضافة آل برمامت، التي أقامها موسى برمامت جد اللواء فواز ماهر برمامت، وكانت تقع في منتصف طريق وادي السير «شارع الأمير محمد»، وبجانب مضخة الوقود «وفا الدجاني» وهي أقدم مضخة لبيع الوقود في عمان لصاحبها داود عبد الهادي.

وذكر كذلك مضافة حميد نفش تسبنه، التي تقع في شارع الملك حسين «طريق السلط»، قرب سينما زهران حالياً أول طلوع جبل الحسين، وتطرّق خمش إلى مضافة اسماعيل شكاخوا لصاحبها اسماعيل شكاخوا أحد وجهاء الشركس، التي كانت تقع خلف البنك العربي حالياً بجانب سينما الحسين الآن.

وقال المؤرخ خمش إنّ معظم المضافات الشركسيّة كانت أنشئت قبل ظهور الإدارة المدنية في عمان 1921م، وكانت تناقش الشأن العام وقضايا المواطنين والصلحات والعطوات والضيافة ومساعدة الملهوف والمحتاج.

وأضاف أنّ الأمير عبد الله الأول كان أقام في منزل سعيد باشا المفتي على سيل عمان عدة أشهر عند بداية قدومه إلى عمان شهر شباط عام 1921م وظل يسكن فيه إلى حين الانتهاء من بناء قصر رغدان، كما ذكر له باسل سعيد المفتي.

المدرج الروماني

وتحدث خمش عن قصّة الشركس مع المدرّج الروماني ومشاهدتهم المغر (جمع مغارة) والسراديب فيه وملاحظتهم أن المنطقة تصلح للسكن لوجود المياه العذبة والأشجار والحجارة من بقايا الآثار القديمة...كل هذه العوامل كانت مشجعة لهم للإقامة بهذه المنطقة كما شجعهم على ذلك الحاكم التركي في السلط الذي وعدهم بتوزيع أراض عليهم وإعفائهم من الضرائب والتجنيد الإجباري لسنوات وكان ذلك عاملاً إضافياً مشجعاً، كما يقول خمش، إذ قدّم العثمانيون الثيران لهم ليستخدموها في أعمالهم الزراعية كما قدموا لهم البذار، وقد كانت للشراكسة مهارة مميزة في النجارة والحدادة وصناعة العربات، وكذلك أتقنوا الزراعة، كما أنهم قاموا باستخدام جزء من أشجار البلوط والسرو في صنع الأدوات الزراعية مثل المحراث والمنجل والفؤوس والعربات التي تجرها الثيران... ويضيف خمش أنّهم سكنوا الآن في هذه المنطقة أي في المدرّج الروماني، فسكنوا في المغر والسراديب هناك، وسكن بعضهم في سفح جبل القلعة في المغر الموجودة هناك، وما يزال هذا الحي الشركسي موجودا حتى اليوم.

ونقل خمش عن أحد كبار السن من الشراكسة قصصاً تصف الصعوبات التي واجهوها أثناء وجودهم في المدرّج الروماني، بسبب مهاجمة الضباع المفترسة لهم خصوصا أثناء الليل، لذلك كانوا يجمعون النساء والأطفال في أحد هذه السراديب ويغلقون باب السرداب بالحجارة الضخمة حتى يحين الصباح حماية لهم وفي الصباح يحركون هذه الحجارة ليفتحوا المدخل ويزاولوا أعمالهم اليومية، كما أنّهم قاموا بتحويل الأرض المقابلة للمدرج الروماني وعلى جوانب سيل عمان إلى بساتين تزرع فيها الخضراوات فقد وزعت الأراضي لكل عائلة حسب عدد أفراد العائلة في منطقة جبل القصور وجبل الحسين وجبل الجوفة والتاج...وقد وسميت المنطقة التي سكنوها حارة الشابسوغ نسبةً إلى هذا الفوج الشركسي من قبيلة الشابسوغ.

ذاكرة بعيدة

أما الفوج الآخر، كما قال خمش، فجاء عام 1880م عندما بدأ وصول مجموعات أخرى من الشراكسة براً من تركيا إلى سورية ثم الأردن مشياً على الأقدام وفي بعض الحالات بواسطة العربات الشركسية، فقد سكنوا منطقة صحن المدينة (وسط البلد) أي منطقة المسجد الحسيني وما حوله مثل شارع الملك فيصل وشارع الملك طلال وسفح جبل الجوفة وحول سيل عمان واستوطنوا هناك وكان هذا الفوج من قبيلة القبرطاي وأنشأ ما يعرف بحي القبرطاي في سفح جبل عمان، كما بنى الشراكسة من الشابسوغ مسجداً في حي الشابسوغ عرف بمسجد الشركس الذي ما يزال قائماً حتى الآن، كما أنّ شارع الملك فيصل، قلب عمان، كان يعرف بمنطقة القبرطاي لأن كل سكانه من عشيرة القبرطاي، كما ذكر خمش الذي قال إنّ منطقة المهاجرين قد وصلها الفوج الثالث مع وصول خط سكة الحديد عمان عام 1903م والسنوات التي تليها.

من أشهر زعامات الشراكسة في ذلك الوقت الزعيم الشركسي ميرزا باشا والزعيم الشركسي سعيد باشا المفتي حبجوقة... ويضيف خمش أنّه وبعد وصول خط سكة الحديد محطة عمان عام 1903م والبدء بتنفيذ الخط نحو الجنوب نحو معان، ظهرت الحاجة إلى وجود قوة أمنية للمحافظة على هذا الخط من تعديات بعض السكان الرافضين لوجوده، لذا قامت الحكومة العثمانية بتكليف ميرزا باشا الضابط السابق في الجيش العثماني وقائد الشرطة العسكرية في لبنان سابقاً والقائد العسكري الشهير في معارك البلقان عام 1877م فأنشأ قوة من الفرسان الشراكسة زوّدوا بالسلاح وكلفوا بحماية خط سكة الحديد لمنع التعدي على ورش العمل التي تبني الخط والمنتشرة على طول خط سكة الحديد علماً بأن ورش العمل هذه كانت مؤلفة من ضباط ألمان...وعند وصول الأمير عبد الله الأول (الملك فيما بعد) عمان عام 1921م حيث استقر فيها واعترفت بريطانيا بالحكم الهاشمي وتأسيس إمارة شرق الأردن كان معه من ضمن حاشيته عدد من الفرسان من قبيلة عتيبة (العتبان) الذين قدموا معه من الحجاز وقاتلوا أثناء الثورة العربية الكبرى وكان أن انضم إليهم عدد من فرسان الشراكسة وكوّنوا الجزء الرئيسي للحرس الخاص لسمو الأمير، وكان مكانهم في مقر إقامة سمو الأمير ولا يزالون حتى الآن في الديوان الملكي بملابسهم الشركسية.

الليلة الشركسية التي تكاملت بفقرة تفاعل معها الجمهور وقدّمها الدكتور إبراهيم فاروقة أستاذ الهندسة بجامعة الإسراء ونادي خريجي نالتشك في عرض للزي الشركسي، تخللها عرض لزي الشباب قدّمه مراد خمش وتولين شقم، مثلما تذوّق الجمهور أبرز المأكولات الشركسيّة في إحياءٍ لذلكح الزمن الأصيل.