بنات شهرزاد «كما ينبغي لنهر»: منهل السرّاج بقلم نبيل سليمان

بنات شهرزاد «كما ينبغي لنهر»: منهل السرّاج بقلم نبيل سليمان

يحدث أن يوافيك صديق أو صديقة بمخطوطة مستأنساً برأيك. وحين لا تكون ثمة صلة تربطك بصاحب المخطوط أو المخطوطة، تتضاعف المسؤولية. ويحدث أن يكون تواتر ذلك نقمة حين تتكاثر المخطوطات، وتغلظ فيها فجاجة البدايات، ويكون عليك أن تتقّنع بقناع الناصح والخبير، وأنت لا تزال من يحاول أن يتعلم الكتابة منذ عشرات السنين. لكن النقمة تصير نعمة حين تصادفك مخطوطة تجعلك ترقص وتهلل، ويصعب عليك أن تصدق أنها الرواية الأولى لصاحبها أو لصاحبتها.
لقد كانت لي واحدة من تلك النعم النادرة، حين أقرأتني منهل السراج مخطوطة روايتها (كما ينبغي لنهر). وإذا كان رفض الرقابة السورية لطباعتها قد فلقني، فهو لم يفاجأني، كما لم يفاجئني أن الرواية قد فازت بجائزة الشارقة للإبداع العربي عام 2002، وهي الجائزة الموقوفة على العمل الأول. وبما أن الجهة المنظمة للجائزة (دائرة الإعلام والثقافة في الشارقة) تصدر الأعمال الفائزة، فقد انقلبت نقمة الرقابة إلى نعمة، وكانت لنا رواية (كما ينبغي لنهر).
تكتفي الرواية من تعيين فضائها في مدينة ما بحارتين يصل بينهما نهر، مع إشارة عارضة إلى مكتبة المركز الثقافي في المدينة. أما الزمن فتكتفي الرواية من تعيين بدايته بالإشارة إلى الاستعمار الفرنسي، ومن تعيين نهايته بالأنترنت. وقد يكون للقراءة أن تعيّن الرواية في سورية بعون مما تحفظ بطلة الرواية فطمة من الأهزوجة التي كان يرددها الأطفال زمن طفولتها: «ديغول خبّرْ دولتك باريس مربط خيلنا». وبالتالي قد تعجّل القراءة إلى تشخيص التقية في لعبة الرواية بالزمان والمكان. لكن الأهم هو أن هذه اللعبة جعلت الرواية تنادي أية مدينة عربية خلال عمر فطمة، مما قبل الاستقلالات إلى الأمس القريب الذي عانق فيه العرب الأنترنت. وبتحديد أكبر: المدينة التي دمّرها الصراع بين أي (نذير) إسلامي وأي (أبي شامة)، فخرجت بذلك الرواية من ربقة التقية، وعوضت خسارة التعيين بما هو أثمن، إذ بات شعاع الدلالة أشعة دلالات تتراقص في الفضاء العربي عبر عقوده (المجيدة) القليلة المنصرمة. وإلى ذلك خصصت الرواية (تعميمها)، سواء بوفرة من المفردات والتعابير العامية التي شرحتها في الهوامش، أو بوفرة من متناصات الأغاني الشعبية ـ وقد مضت لعبة التناص أيضاً إلى حي بن يقظان ـ وكذلك بالرهان الفني الأكبر للرواية: الوصف الذي لم تفته دقيقة من دقائق الحارة والبيوت والدكاكين والمقبرة والسجن وأشياء الحياة اليومية والطبيعة (النهر والنبات).. كما لم تفته دقيقة من دقائق الروح للجماعة وللأفراد، حيث غدا الوصف استبطاناً رهيفاً لدخائل البشر في الوقائع الكبرى والصغرى، وبخاصة: واقعة اليوم العظيم الذي استباح فيه رجال أبي شامة المدينة، في ذروة الصراع بين السلطة (أبو شامة) وبين التيار الإسلامي الذي يقوده العم نذير.
بيوم من أيام فطمة في عهد الأنترنت، افتتحت الرواية وبدأ نبش الماضي الذي يكنزه (الصندوق). وصندوق الذكريات لعبة أثيرة في الفن الروائي ـ حسبي الإشارة هنا إلى رواية أهداف سويف (خارطة الحب) ـ تستعيدها رواية (كما ينبغي لنهر) إذ تقلّب فطمة سبحة الجدة وهوية الأب ومفتاح قبو القبو وصورة لميا المجنونة و.. والأهم: الكيس الذي يحتوي صور العائلة وصور الحبيب الأول. ومنذ هذه البداية إلى ما سيلي من تقليب في الصندوق الذي دارت حوله ووقعت فيه أحداث عديدة وأخبار كثيرة، يصير الاسترجاع مفتاح قصص وحكايات شخصيات الرواية التي تكاد كثرتها توقع في التتويه. ففطمة مسكونة بالماضي على نحو جعل الرواية تنوء بالنوستالجيا وهي تحيي حجرا وبشرا ما دمّره الصراع بين أبي شامة ونذير.
ولن تفصل الرواية بين ما تسترجع من الماضي وبين حاضر فطمة. بل يتوالى سرد الماضي في إهاب الحاضر بلا انقطاع من البداية إلى النهاية. وقد تتباطأ الرواية إلى أن تستوفي قصة أحدهم أو إحداهن. وقد تتشظى الأخبار أو القصص في أكثر من موقع، ويبلغ ذلك أحياناً حد التتويه. غير أن الشخصيات تروح تنبني كأنما بسرية أو بصمت الكتابة، مثلها مثل تاريخ المدينة الفاجع. ومن حين إلى حين ينظم هذا البناء إيقاع فإيقاع. ومن الإيقاعات ما يكون مكثفاً لدلالة أو أكثر، أو ما يبثّ دلالة أو أكثر. فالجرذ الذي ينغص على فطمة منذ البداية، سيتفاقم حضوره إلى أن يجعل فطمة تخاطبه: «والله الزمن زمنك»، وإلى أن يحتضن جهاز التحكم بالتلفزيون ويخاطبها: «متى تعترفين بأهمية وجودي؟». إنه ما يقرض وجودها، وهو ما سيتعزز بالإيقاع الأكبر الأخير: إصابة فطمة بالسرطان. وإلى ذلك تأتي إيقاعات أصغر كأنما تتولى تنظيم السرد وحسب.
فعلى إيقاع طبخة اليبرق ـ مثلاً ـ في البداية التي أطلقها الصندوق، تنتظم استعادة فطمة لنثار، عبر عشرات الصفحات، منه ما سيتركز وينجلي فيما بعد، ومنه ما يغطّي فوراً محطة من محطات فطمة والمدينة، كمحطة الحبيب الأول في المرحلة الثانوية، والذي تعتزم أمه ترك المدينة لأنها من أقارب أبي شامة. ولسوف توالي فطمة لقاء الحبيب امتحاناً لشجاعتها وتحدياً لعمها نذير، بينما الصراع يوشك أن يذرّ قرنه بين هذا العم وبين أبي شامة. ولقد مضى الحبيب إلى ألمانيا، ودعا فطمة إليه، إلا أن فطمة ـ بحسبانه ـ لم تجده قوياً كأصحاب الرسالات، فلم تلب نداءه. أما فطمة فسيقيم فيها هذا الحب، ولن تنسى ذلك الشاب الذي رأته آخر مرة يُدحرج على درج المشفى مضرجاً بالدم.
من ذلك الماضي وصبا فطمة إلى الحاضر وشيخوختها، تتضرج الرواية بالدم الذي سفكه رجال أبي شامة، بل تصير الرواية كوابيس من المقابر الجماعية وهدم البيوت واختطاف الشبان واغتصاب الفتيات والخنوع الذي سيلي وسيبلغ حدّ تخوين البشر، كما تشير بسخرية كاوية جمعية الحمير التي يتسابق الناس إلى عضويتها، بينما يظهر نذير الهارب على شاشة التلفزيون بأناقته الباريسية كصنوٍ للطاغية أبو شامة، فالسلطة كنقيضها هذا وجهان لعملة واحدة، والمآل يتوزع أخيراً بين فتك السرطان بفطمة وبين الجيل الشاب الذي ترمز إليه الرواية بشخصية لميس.
لقد أعاد أبو شامة بناء الحارة، ومن ذلك كان مركز الخلية الذكية للاتصالات الذي تبصق عليه لميا المجنونة كلما قطعت الجسر كما تبصق على النهر الذي ابتلع ابنها يوم وقعت الواقعة، فجنّتْ المرأة. وفطمة أيضاً تمقت المركز، لأن أبا شامة أقامه بعد فتكه بالحارة. لكن الشابة لميس غير معنية بأبي شامة، وهي تتردد على المركز لترى العالم وتلتقي أصدقاء من جنسيات مختلفة عبر الأنترنت، كما سيفعل الراوي في رواية خليل صويلح (بريد عاجل) من بعد. ولميس تسأل خالتها فطمة: «لماذا تصرون على أننا جيل غير مسؤول؟ جربي مرة أن تضعي ثقتك بي». إنها  تريد أن تعرف كل شيء، والمركز وسيلتها. وإذ تموت فطمة، تكبر لميس بسرعة وهي تعبر كل صباح الجسر بين ضفتي النهر، تتابع ما يجري حولها. «وفي عينيها الواسعتين تتلامح كل وقت فطمة التي تستلقي بجانب قلعة المدينة، كما ينبغي لنهر..». وبذا تلتف العبارة الأخيرة لتصير عنوان الرواية، بينما تنشبح القراءة وتدمى في هذه الكتابة التي أبدعتها منهل السراج من أمسنا ومن يومنا، وربما من غدنا، والعياذ بالله.