فيما تتزايد المؤشرات على قرب حدوث انطلاقة جادة, على طريق إحياء المباحثات السورية ــ السورية, الرامية الى تقديم منطق الحل السياسي على أي منطق آخر وبخاصة الحل العسكري, حيث تم تحديد «مواعيد» لبدء تلك المباحثات, سواء في استانة عاصمة كازاخستان منتصف الشهر المقبل, وآخر في جنيف حدّده المبعوث الخاص دي ميستورا في الثامن من شباط القريب، وفيما أسفر الاجتماع الثلاثي الروسي الايراني التركي عن «اعلان موسكو», بعد اجتماع لوزراء دفاع الدول الثلاث، أكدّ فيه المجتمعون على وحدة الأراضي السورية وتأييدهم الحل السياسي... ما عنى، ضمن امور اخرى، ان العواصم الثلاث الأكثر تأثيراً ونفوذاً في الأزمة السورية، لن تدعم أي مشروعات وخطط كانت تُروج في الماضي حول تقسيم سوريا, وخصوصاً بعد ان بدا لبعض العواصم الاقليمية ( منهاعربية) ودولية, ان الارهابيين قد باتوا رقماً صعباً وحاسماً في الأزمة السورية على نحو تصعب هزيمتهم, او الحد من اندفاعاتهم التي تجلّت في بعض الأوقات تهديدهم العاصمة دمشق من غوطتها الشرقية المرتبطة بجنوب سوريا, فضلاً عن شرقي حلب وإدلب والرقة وتدمر وبعض ريف اللاذقية.
نقول: في سياق ذلك كلِّه, برزت يوم أمس تصريحات لافتة للرئيس التركي اردوغان, خلال مؤتمر مجلس العلاقات الاقتصادية الخارجية التركي, اراد اردوغان من خلال خطبته فيه, تبديد او التقليل من المخاوف الآخذة في التصاعد, بعد وقوع الاقتصاد التركي في ما يشبه الركود او أقلّه أزمات متدحرجة, تبدّت في تراجع ملحوظ وصل حدود الثلث في سعر صرف الليرة التركية, وايضاً –وفق أرقام رسمية تركية – في انخفاض معدلات الاستثمار الخارجي, بل وهروب بعض الاستثمارات المحلية الى الخارج، الأمر الذي تجلّى في خطبة اردوغان في المؤتمر المذكور عندما تبنى نظرية المؤامرة – كعادته دائماً – بالقول: هناك مؤامرات تسعى للنيل من اقتصاد تركيا خلال الآونة الاخيرة, داعياً «شعبه والمستثمِرين» الى التعاون مع الدولة وقيادتها, لإفشال تلك المؤامرات.. مُعتبِراً الشركات ورجال الأعمال الذين يؤجِّلون استثماراتهم ومشاريعهم في هذه «المرحلة الحسّاسة», بأنهم يقفون الى جانب الأطراف التي «تُهاجِم» الاقتصاد التركي وتسعى للنيل منه».
وبصرف النظر عن تلك المفردات التي أوردها اردوغان في خطابه, والتي تُحمِّل الغير» مسؤولية التراجع في النمو الاقتصادي والمخاطر التي باتت تُحْدِق بالاقتصاد التركي، هذا النمو الذي بنى عليه اردوغان وحزبه مجدهما, ولاقى هوى واعجابا لدى «المبهورين» منه في عالمنا العربي–دع عنك المتأسلمين–الذين يردون عليك عندما تنتقد سياسة اردوغان العثمانية الاستعمارية, فوراً بـ»المعجزة» الاقتصادية التي حقّقها وغيرها من «الفقاعات» المنسوبة اليه, على نحو بات يظهر الآن.. «عوراها», او على الأقل, كونها غدت الان «ضحية» سياسات اردوغان العدوانية والتوسعية والاستعلائية, في نظرته الى العرب والعروبة, خصوصا في سوريا ومصر.
ومع ذلك.. ليس هذا موضوعنا في هذه العجالة, بل ما جاء في خطبة اردوغان سالفة الذكر, عندما «عاد وأكّد» ان هناك اطرافاً (طبعاً لم يُسمِّها) تسعى لإقامة دولة «جديدة» شمال سوريا، مُشدِّداً ان بلاده «لن تسمح» باقامة تلك الدولة... على الإطلاق.
هنا والان... تُثار الشكوك من جديد، بعد ان بدت السياسة التركية تجاه الأزمة السورية وكأنها اتخذت وجهة مُختلِفة, قد تنتهي باستدارة جادة وحقيقية، تضع حداً للسياسات العدوانية التركية, وتُنهي حقبة التدخل في شؤونها, عبر وضع حد للدعم غير المحدود الذي وفّرته للجماعات الارهابية وفتحِ حدودها لكل المرتزقة والآفاقين وتجار السلاح وشركات السمسرة وتجارة البشر, كي تعيث فساداً وخراباً في سوريا, هادِفة تقسيمها واسقاط دولتها, وتشريد شعبها وشرذمته الى مذاهب وطوائف وإثنيات.
وما إن بدأت عملية «درع الفرات», التي نالت «شِبه» موافقة صامتة, بهدف طمأنة انقرة في شأن مخاوفها من احتمال إقامة جيب او دويلة كردية, تمتد بين عفرين واعزاز بعد جرابلس ومنبج وعين العرب/ كوباني، حتى بدا للحظة ان اردوغان قد حقّق هدفا طالما أرّْقَه وخصوصا بعد الخطوات التي اتسمت بالحماقة التي اتخذها صالح مسلم زعيم حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري, وشعوره بفائض القوة بعدما حقّقته قوات حماية الشعب او قل قوات سوريا الديمقراطية, التي حظيت بدعم اميركي لافت وحماسي, بانه (صالح مسلم) سيقيم دولة غرب كردستان (روج آفا).
ليس ثمة ما يؤشر الى ان هناك من يسعى الى اقامة دولة في شمال سوريا، اللهّم إلاّ إذا كانت تحذيرات اردوغان تستبطن رغبة منه في إقامتها من قِبَل (سيادته).ليس فقط لأن مشروع «عاصمة» تلك الدولة التي حَلُم بها اردوغان قد سقط نهائياً, بعد تحرير حلب وإعادة شرقها الى كنف الدولة كما كانت وستبقى, وهو الذي دَعَمَ الارهابيين كي يواصلوا جرائمهم لتحقيق هدفه، وانما ايضاً لان اردوغان عاد ليُكرِّر اسطوانته المشروخة’عبر طرحِه القديم الذي لم يجد طريقاً الى التنفيذ وهو ان: «تركيا تطرح منذ البداية إقامة منطقة آمنة, خالية من الارهاب شمال سوريا».
هنا تكمن القطبة المخفية,حيث يُغازِل فيها اردوغان–ربما–دونالد ترامب, الذي ألمح الى «شيء» كهذا في احد تصريحاته.
لن تُقام دولة اخرى في شمال سوريا, ولن تكون هناك منطقة آمنة ايضاً، هذا ما تقوله المؤشرات وموازين القوى والتحالفات الراهنة, وهذا ايضاً ما ستؤكده... الأيام المقبلة.
kharroub@jpf.com.jo
مواضيع ذات صلة