كتاب

المدنية والعلمانية.. المفاهيم والآفاق

أفهم الأوراق النقاشية الملكية من حيث مقصدها الأساسي الذي يتمثل في الدعوة للنقاش، وعنونة الملك لأوراقه التي تتابعت في قضايا تتعلق بالمجتمع والدولة بوصف النقاشية يحمل دلالة واضحة، فهي ليست أوراقاً توجيهية أو إرشادية، ولو كان الملك يريدها كذلك لضمن هذه الأفكار في كتب التكليف السامية التي توجه للحكومات لتصبح إطاراً للعمل الذي ربما لا يتناسب مع طبيعة الأولويات التي تطرح نفسها أمام الدولة في مرحلة زمنية معينة، خاصة أن الأردن، ومعه معظم دول المنطقة، تناور في منطقة (رد الفعل) دون أن تتمكن، لأسباب اقتصادية واقليمية، من الانتقال إلى منصة (الفعل).

بتولي الملك سلطاته الدستورية سنة 1999، وقبل بضعة أشهر من بداية الألفية الثالثة، كانت خطاباته تعبر عن تفهمه بأن المستجدات المختلفة من شأنها أن تغير المعادلة التي أقامها الملك الحسين على امتداد نحو خمسة عقود من الزمن، فالعولمة فرضت ايقاعاً مختلفاً كان يحتم على الدول الشبيهة بالأردن أن تتراجع عن الإغراق في المحلية، وكان من الطبيعي أن يتسبب ذلك في مراجعات شاملة على مختلف المستويات وفي مقدمتها المواطن الذي انفتحت أمامه خيارات قوضت العلاقة الحصرية مع الإعلام الرسمي المرئي والمسموع، ودفعته للمقدمة دون تأهيل مناسب من الممارسة الديمقراطية والسياسية.

كان عصر الانترنت يفتح مجالات جديدة من الحرية التي وقفت حتى القوانين المتقدمة في حالة من القلق والحيرة أمامها، وما يحدث في فرنسا حالياً يمثل نموذجاً لإشكالية القانون بوصفه نصوصاً تنظيمية مستقاة من قواعد أخلاقية وإنسانية أكثر عمومية مثل الحرية والعدالة والخصوصية، فواقع الأمر أن هذه القواعد، ونتيجة لإرهاصات عصر الحداثة الفائقة، أصبحت هي ذاتها محلاً لموجة مستجدة من الشكوك والمساءلات العميقة.

التاريخ لا يكرر نفسه، ولكن مجموعة من العوامل تشكل حدود الصراع التاريخي، والقوانين هي أحد الأدوات للتخفيف من وطأة الصراع، ولكن ما الذي يمكن أن يعنيه قانون ما دون وجود تطبيق على جانب كبير من الكفاءة؟ وما هي السلبيات التي يمكن أن تولدها حالة التفاوت في تطبيق القانون على الأفراد والمؤسسات؟

تمثل حالة غياب القانون بالكامل حافزاً للتقدم الإنساني من أجل الوصول للاستقرار، فالدول الكبرى خرجت من حالة الفوضى، بينما يكون القانون الذي يحضر دون أن يتصف تطبيقه بالشمولية والصرامة بمثابة الشيطان في كل التفاصيل، إلا أن الأردن لا تعاني فقط من الحاجة لتعزيز مفهوم سيادة القانون، ولكنها أيضاً بحاجة لمراجعة البنية القانونية كاملة، خاصة بعد أن شهدت شهراً ساخناً ينتمي للعصور الوسطى مع تصاعد وتيرة ما يسمى بجرائم الشرف.

الدولة المدنية هي دولة لا تعتبر الدين ميزة لأحد على الآخر، فالمواطنة هي الأساس، ومن هذه الناحية تعتبر الدولة علمانية، ويمكن تفهم موقف الملك تجاه مصطلح العلمانية بتفويت الفرصة على التيارات الدينية للالتفاف على مشروع دولة مدنية من خلال خلط الأوراق، خاصة أن الحكومة تخوض معركة تحديث المناهج التي يراها الإسلاميون خروجاً على الملة، بينما يراها أنصار التيار المدني محبطة وغير كافية.

إن العلمانية تعاني اليوم من نفس المشكلة التي واجهتها الديمقراطية قبل قرن من الزمن، فكانت بعض التيارات تقول، الديمقراطية والعياذ بالله، ومع ذلك أعطتهم الديمقراطية الفرصة للاستمرار والمشاركة، وستعطيهم العلمانية الحقيقية الفرصة من أجل المواصلة بوصفهم مواطنين يستطيعون الحصول على جميع حقوقهم ودون الحاجة للجوء إلى حزب أو عشيرة أو جماعة.

العلمانية التي يتبناها دعاة الدولة المدنية لا تقف ضد الدين ولكنها تقف مع الإنسان، والدولة العلمانية الأوروبية أعطت المسلمين الحقوق في بناء مساجدهم وتوسعتها، ومنحت حرية الإقامة والتنقل والاستفادة من المعونات الاجتماعية، فهي ليست تقويضاً لأي نشاط ديني فردي أو جماعي، ولا تقف ضد الحريات الدينية كما يحاول الإسلاميون تصويرها.

الورقة تعتبر على جانب كبير من الحساسية، وبالفعل وصلت إلى مرحلة الطرح بقوة على مواقع التواصل الاجتماعي، خاصة أن الاهتمام الواسع بمفهوم المدنية والعلمانية بدأ يتصاعد بعد حادثة اغتيال الكاتب والمفكر ناهض حتر التي أطلقت توتراً اجتماعياً واسعاً حول مفاهيم وآراء كان يتبناها شهيد الكلمة والفكرة.