ذاب تماما... غيّبته شمس الاصيل واختفى وراء غلالة الضوء الارجواني.. تساءلت ما الذي يجعل العاشق يمضي الى هناك وهو يدرك ان الامر ليس مزحة؟... ام انه كان يدري؟
قال النادل ـ ربما ليطمئنني ـ:«لا تخافي سيدتي.. ليس ثمة كلاب شرسة، فاليافطة التي وضعها صاحب البيت على الباب غير صحيحة ابدا.. انه يريد فقط تضليل اللصوص وارعابهم».
نظرت اليه بتركيز شديد لأتبين صدق او كذب ما يقول، لكن عينيه صدتاني بابتسامة ماكرة، وتأرجحت بين الشك واليقين.
البيت الذي يحمل يافطة كتب عليها «لا تقترب .. كلاب شرسة» بيت منعزل اسفل الوادي، يحيط به سياج اسمنتي على ارتفاع مترين تقريبا، وبابه من حديد مشبك.. القادم الى مطعم (طلة الوادي) لا بد له من المرور بمحاذاة البيت.. قلت لنفسي: ان النادل يكذب، لانه لا يريد ترويع الزبائن... وصاحب البيت على حق لكي يدرأ شرور اللصوص... وانا على أية حال لا يهمني امرهما، بل امر الرجل الذي احبه والذي اصر على معرفة اسرار البيت المحروس بالكلاب الشرسة:
- لا بد ان شيئا ما يختفي داخل البيت.
- مثل ماذا؟
- لا ادري.. لكنني سأكتشف.
- ماذا تعني؟
- سوف امضي الى هناك.
- لا شك بانك تمزح.
- الحياة مزحة يا حبيبتي.
- لكنها قد تكلفك حياتك.
- سأنزل الى الوادي، وما عليك سوى التمتع بالمشهد.
كان مصرا بدرجة مخيفة... يكمن في عينه غموض لم اعهده من قبل.. قال لي في الليلة الفائتة ان ثمة كابوسا ارعبه:
- امرأة فاتنة راودتني عن نفسي.
صرخت به:
- كفى.. لا اسمح بخيانتي حتى في الكوابيس.
ضحك وقال:
- ولكنها ما ان خلعت ملابسها حتى تغير كل شيء، وتحولت الى حيوان بشع اراد ابتلاعي.. وفي تلك اللحظة تذكْرتك.
صرخت به ثانية:
- ماذا تقصد؟
تراجع الى الوراء ومد ذراعيه.. ثم احتضنني وبصوت دافىء وقال:
- تذكرتك كملاك حارس.
استراحت يداي في يديه فتسللت حرارة راجيته اليّ... شربنا الشاي، وبين رشفة واخرى كان يُسْمعني كلاما غريبا.. وكان الليل قد انتصف، فراح يحدق بالنجوم:
- ما الذي يأتي بعد الاجرام والنجوم؟ ما الذي يختفي وراء السماوات؟ ما هي حدود الكون اذا كانت ثمة حدود؟ من يحتفظ بأصواتنا وارواحنا بعد ان تموت اجسادنا؟ ام انها تلك النجوم هي الارواح التي غادرت اجسادها؟
لم اتعود على هكذا كلام... لم اسمع منه طيلة عام كامل هو عمر علاقتنا الا كلاما في الحب، وفي البيت الذي سيحتفي بنا، وبالاطفال الذين يمكننا ان نجيء بهم الى هذا العالم... اما الموت فلم يتسلل الى جلساتنا.
* * *
نزل الى الوادي ولوّح لي.. كان المنظر يبدو عبر الزجاج المؤطر كلوحة تتحرك داخل الاشياء... قمم الاشجار التي يحركها الهواء، وكتل الغيوم التي تركض، وتلويحة يده، وقامته الفارعة.. لكنه كلما اوغل بعيدا بدا ككائن غامض... اقلص ما بيني عيني.. استجمع حواسي كلها واحشرها في نقطة واحدة لتنظر الى الزاوية التي دخلها ثم انعطف ولم يخرج ابدا.. وكان الاصيل يذوب رويدا.. يصبح الارجواني رماديا قاتما... افتح ضلفة النافذة فتصدمني برودة الهواء، وانظر الى هناك... حيث اختفى.
ثمة نباح شرس يأتي صداه - مع اننا حين مررنا لم نسمع شيئا - يضطرب الفضاء برعود دون بروق ويتناسل الخوف في صدري... ما زال قدحه مملوءا بالشاي الى النصف.. قال انه سيكمله حين يعود... متى يعود؟ احدق في النصف الفارغ من القدح، ينهرس قلبي تحت مطرقة ثقيلة لا اراها... يهبط الليل ويحجب حدود الاشياء، بينما انا معلقة في مطعم «طلة الوادي» في الجزء الضيق من الجبل المتوحد.... النباح يصبح عواء متصلا، يرتعش جسدي.. اشير الى النادل... اوبخه حين يقترب مني:
- كيف تدعي انه ليس ثمة كلاب شرسة في ذلك البيت؟ ألا تهمكم ارواح الناس؟ ام ان الربح هو الاهم لديكم؟... الا تسمع؟
يدنو من النافذة ويغلقها ثم يرمي الي نظرة لطالما رفضتها من الاخرين:
- هل تأمرين بشيء آخر؟
- اريد شايا.
يمد يده ويرفع قدحي الفارغ، وحين يهم برفع الثاني انهره:
- كلا .. دعه.
- ولكنه برد.
- انه يحبه باردا.
يمضي النادل تتبعه همهماته.. ويستعر النباح، يطرق مسامعي بقوة، احس بالكلاب كما لو انني اراها، تنهش وتهمهم، كمن يلوك شيئا ما... واخرى ترفع وتيرة نباحها كما لو انها تريد ان تأخذ حصة اكبر.. اصرخ بأعلى صوتي:
- ايها النُّدُل .. الا تسمعون؟
لا احد يرد على صراخي او يستجيب لاستغاثتي، انهم جميعا يتلصصون عليّ من وراء ستارة... امطرهم بالشتائم واخرج من «طلة الوادي»، امضي في الطريق ذاته حيث البيت الذي يرفع يافطة التحذير من الكلاب الشرسة.. اسمعهم يهمسون لبعضهم بعضا.
- ستعود في اليوم التالي تقول الكلام نفسه، تطلب قدحين من الشاي... تشرب واحدا وتترك الثاني الى النصف.
فيما انا اتعثر بالصخور وبالهواجس، واسمع الاصوات التي تخبو كلما اقتربت من البيت حتى تختفي تماما، وارى الرجل الذي احبه والذي ما يزال يلوح لي... وحين اضع رأسي على الوسادة، تضج اصوات الكلاب الشرسة.
