د. خالد الناشف - التسجيل صفة ملازمة للحضارة البشرية منذ القدم، وهو ظاهرة معروفة حتى في المجتمعات التي سبقت الكتابة. والرسم على جدران الكهوف ليس إلا شكلا من أشكال تسجيل النشاطات اليومية وتثبيتها في صور. ولا يختلف الأمر مع وجود الكتابة المرتبطة باللغة، فالتسجيل في هذه المرحلة يخدم الهدف ذاته مع استبدال الصور والرموز بالكلمات. ولا يمكن فصل هذه الممارسات عن تطور الوعي البشري، فإلى جانب الأغراض العملية يعبر الإنسان بالصور والأشكال (الفنون الجميلة) والكلمات (الفلسفة والأدب) عن تأمله بحياته ومحيطه الاجتماعي والطبيعي والتسجيل يعني تثبيت الأشياء للمستقبل. هذه الرغبة الجامحة في التسجيل (الرسم، الحفر، الكتابة) تبدأ من الصغر فما ان يتعرف الطفل على الكتابة حتى يبدأ بخط أسمه على الورق، أو يرسمه على جدار أو يحفره على صخرة أو على جذع شجرة عتيقة. وكذلك عندما توضع في يده الأقلام الملونة يبدأ برسم البيت والأم والشجرة والوردة والنهر وما يراه حوله في بيئته من علامات مميزة تنطوي على دلالات خاصة بالنسبة له. هكذا بدأ الإنسان مسيرته الحضارية في عصور ما قبل التاريخ، وها هي النقوش والكتابات تقاوم عوامل الزمن وتبقى حتى اليوم وكأن الرغبة بحفظ هذه النقوش قد تحققت ولكن أبعد بكثير مما كان يتصور كاتبوها.
الأبجدية والنقوش
السبب في حفظ هذه النقوش هو استخدام الكاتب قديما للحجر أو الفخار أو المعدن ليضع عليها نقوشه وكتاباته. والحفر بأداة حادة على الأحجار والصخور يحتم ظهور أشكال مختلفة من الحروف، وهو ما تعكسه مهارة أصحاب النقوش ومدى طواعية المادة الموجودة تحت تصرفهم. وهذا ما استدعى دراسة أشكال الحروف حسب الفترات الزمنية واللغات والأقاليم والكتاب. ويرتبط الموضوع بشكل وثيق بظهور الأبجدية وتطورها، وإن كانت الأبجدية المسمارية كما عرفت في راس شمرا (أوغاريت) شمال سوريا قد سبقت الأبجدية الفينيقية. في الغرب أكتشف أول نقش أبجدي بالأرامية واليونانية في روما في بداية القرن السابع عشر بالقرب من بوابة كان في موضعها معبد مخصص للجنود الرومان من أصل تدمري. ومنذ ذلك الحين تطور موضوع النقوش ليصبح حقلا مستقلا يعالج فيه عدد من لغات الأصل الثلاثي، أي ما يعرف باسم باللغات السامية، والتي تعتبر العربية أهمها على الإطلاق. الأكدية هي إحدى هذه اللغات ولكنها تخرج نوعا ما عن إطار حقل دراسات النقوش لأنها كتبت على ألواح أو رقم طينية وبالخط المسماري المقطعي، خلافا للنقوش التي كتبت بالأحرف الأبجدية.
نقوش للذكرى
تنتشر معظم النقوش في الأردن في البادية الشمالية وكتبت باللهجة الصفوية، وهذه الكلمة هي مجرد مصطلح متعارف عليه ولا تشير إلى مجموعة أو شعب، فقد أطلقت على أول مجموعة من النقوش عثر عليها بالقرب من تلول الصفاة، جنوب شرق دمشق. النقوش الصفوية قصيرة وتذكارية الطابع يثبت فيها كاتبها مروره بالمكان بتسجيل اسمه ونسبه على حجر النقش، ويذكر جانبا من نشاطه، أو شوقه وحنينه للحبيبة، وأحيانا يؤرخ النقش بحدث خاص من عصر الكاتب. وفي أحيان أخرى يضاف رسم قد يكون معبرا عن محتويات النقش. وتقابل الصفوية الثمودية في الجنوب، والثموديون شعب معروف ذكر في القرآن الكريم أكثر من مرة، مثلا: 'وثمود الذين جابوا الصخر بالواد' (سورة الفجر)، في إشارة إلى وادي القرى والبيوت التي كان يسكنها الثموديون في الصخر، كالأنباط في الأردن. عرف إنسان الأردن القديم أيضا الأكدية والأرامية، التي كان يستخدمها الأنباط، واليونانية واللاتينية، وإن لم يفقد لهجاته الخاصة به والقريبة من العربية التي أصبحت اللغة المحكية مع انتشار الإسلام. وبهذه اللغة أيضا ترك لنا الأقدمون نقوشا ملكية في المباني العامة، كالنقش الرائع للخليفة الأموي عبد الله بن يزيد بالخط الكوفي من قصر الموقر إلى الجنوب الشرقي من سحاب. وتأتي مادة النقوش لتسد فراغا معلوماتيا في حقب زمنية استخدمت فيها وسائل كتابة غير قابلة للحفظ، وهذا الوضع ينطبق على بلدان عربية أخرى، باستثناء العراق القديم الذي ترك لنا مئات الآلاف من الرقم الطينية تغطي تقريبا جميع مجالات الحياة. وفي فلسطين كان الإنسان يسجل نشاطاته الاقتصادية والإدارية، وأحيانا الدينية، على كسر من الفخار لهذا بقيت هذه الوثائق حتى اليوم، كالتي عثر عليها في خربة الكوم وتل الدوير في الجنوب.
البعد التاريخي
النقوش والكتابات القديمة كانت موضوع مؤتمر دولي نظمته مؤخرا كلية الآثار والأنثروبولوجيا التابعة لجامعة اليرموك. وقد تمحورت أوراق العمل لتشمل التاريخ واللغة والديانة وتفسير النص، وعرضت فيه نقوش وكتابات أكتشفت حديثا. يتمثل البعد التاريخي في ستة نقوش صفوية جديدة عرضها رافع حراحشة (دائرة الآثار العامة) ويونس شديفات (جامعة مؤتة) وتذكر الملك أجريبا الثاني وهو حفيد هيرود الكبير، وكان مثل جده تابعا للإمبراطورية الرومانية أثناء هيمنتها على فلسطين والأردن. وتأتي أهمية هذه النقوش أن اثنين منها يذكران السنة التي مات فيها، أي 93 ميلادية، وفي نقشين آخرين تذكر السنة التي نجا فيها أجريبا، أي ربما سنة 66 ميلادية من اضطرابات حصلت في محافظة يهوذا الرومانية. بالإضافة إلى ذلك يذكر أحد النقوش كلمة مدبار وهي تعني منطقة الحماد الأردنية، الواقعة في البادية الشرقية، والسياق يعكس حركة البدو شرقا وغربا في فصلي الشتاء والصيف. وعرض مد الله العنزي (وزارة التربية والتعليم، المملكة العربية السعودية) نقشا عربيا شماليا جديدا من تل الذئاب شمال المملكة. وفي النص يذكر اسم مسك _ إيل ونحن نربط هذا الاسم بأسماء شائعة في المنطقة، مثلا، اسم موقع يقع إلى جنوب دمشق هو الشيخ مسكين، وكلمة «مسكين» هنا قد تكون تطورت من اسم قديم هو «مسك _ إيل». عميدة شعلان (جامعة صنعاء) قدمت نقوشا جديدة من متحف قسم الآثار في جامعة صنعاء تذكر في أحدها «أرض نجران» وأثيرت في النقاش مسألة لفظ كلمة «نجران» وأنها قد تكون في الأصل بدون المد أي «نجرن».
تراث محلي
النقوش والآثار حقلان مرتبطان مع بعضهما إلى حد بعيد فكما هو معروف يستفيد الآثاريون من وجود نقوش أو قطع عملة في تأريخ الطبقات في الموقع الأثري، والطبقات هي العمود الفقري الزمني التي تؤرخ من خلالها المباني واللقى الأثرية في الموقع. وبشكل متبادل يمكن أحيانا للنقوش أن تؤرخ من خلال الطبقة الأثرية التي وجدت فيها. ففي تل دير علا، أحد أهم المواقع الأثرية في الأغوار الوسطى، عثر على مجموعة من الألواح الطينية في طبقة أرخت حسب الطبقة إلى القرن الثالث عشر قبل الميلاد وعلى بعض الألواح كتبت نقوش بأحرف ما زالت غير مفهومة وعلى ألواح أخرى حفرت نقاط لا غير.
زيدان كفافي (جامعة اليرموك) لاحظ في محاضرته الشبه الخارجي بين هذا الخط وآخر كان سائدا في اليابسة اليونانية وجزيرة كريت من الفترة نفسها. ونبه كفافي إلى فخار يسمى بالمايسيني نسبة إلى مدينة مايسينة في اليابسة اليونانية عثر عليه في تل دير علا نفسه، وفي مواقع أخرى كتل أبو الخرز في الأغوار الشمالية. لهذا افترض المحاضر أن هذا الوجود الذي يعبر عنه الفخار والرقم الطينية ليس هامشيا وأنه يعبر عن تراث محلي أصيل في شمال الأردن. إن هذا الطرح ينبهنا إلى موضوع قديم جديد في الآثار له علاقة بانتشار الحضارات في الحقب الزمنية المختلفة، فالمحاضر يريد القول أن أصحاب حضارة معينة موجودون في البلاد ومتأصلون فيها بصرف النظر عن التأثيرات الحضارية الخارجية. وهذا توجه جديد في التعامل مع الآثار يعكس هويتنا الحضارية وتأصلها في الأرض التي نعيش عليها بشكل مغاير لتصور البحاثة الغربيين حول تحركات الشعوب والتركـــــــيز على 'تميز' مجموعات دون غيرها.
نص مسماري من الأردن
في الموسم الأخير للعام الماضي من التنقيبات الأردنية الهولندية المشتركة (جامعة اليرموك/جامعة لايدن)، عثر في تل دامية على كسرة فخارية بدمغة طينية عليها كتابة مسمارية. هذا الاكتشاف الفريد من نوعه عرضه كاتب هذا المقال (باحث حر) وعمر الغول (جامعة اليرموك) وتناولت المحاضرة طبيعة الوجود الأشوري في القرن الثامن قبل الميلاد. نص تل دامية هو الخامس من بين نصوص مسمارية أكتشفت في الأردن، فهناك رقيمان يعودان إلى القرن الخامس عشر قبل الميلاد عثر عليهما في طبقة فحل (بيلا القديمة)، ورقيم آخر ظهر في تنقيبات تل طويلان في الجنوب، ويعود إلى الفترة الفارسية، وأخيرا هناك نقش نابونيد، آخر ملوك البابليين، الذي أكتشف في سلع ويعود إلى القرن السادس قبل الميلاد. ويأتي نص تل دامية ليلقي الضوء على الوجود الأشوري في الأردن وخاصة أنه قد ظهر في موقع قريب من تل دير علا، إحدى المدن الرئيسية في الأغوار الوسطى، وقد يكون تل دامية نقطة عبور للبضائع المصدرة أو المستوردة عبر النهر. ورجحت المحاضرة أن التغلغل الأشوري أو البابلي في الأردن وفلسطين كان يرمي إلى السيطرة على الساحل الفلسطيني للتحكم بالحركة التجارية مع الغرب. ولهذا لم يكن هناك اهتمام فعلي بالسيطرة على الجبال المعزولة ومراكزها كسبسطية والقدس وإنما بالساحل كالطنطورة (دور القديمة) جنوب حيفا التي أسس فيها الأشوريون مركز للمحافظة، أو خربة المقنع (عقرون قديما) وإسدود في الساحل الجنوبي بالنسبة للبابليين. دمغ النص المسماري الأكدي على كتلة طينية وضعت على عنق أو بدن إناء كان يحتوي بضاعة، ثمينة على الأغلب. وقد يكون في النص إشارة غير واضحة لهذه البضاعة أو اسم الشخص الذي سلمها أو استلمها.
تجارة التحف
عرض أندريه لومير (جامعة السوربون) الديانة العربية الشمالية كما انعكست في نصوص يفترض أنها من خربة الكوم التي تقع حوالي 20 كم إلى الغرب من الخليل. وتقع الخربة، وهي اليوم مسكونة، على الطريق الرئيسي الذي يصل الخليل بالمنطقة الساحلية مرورا ببيت جبرين. الأسوار التي كشف عنها في الموقع تؤكد أنه كان أحد المدن الرئيسية في جبال الخليل. في النصوص التي تعود إلى القرن الرابع قبل الميلاد هناك الكثير من الإشارات التي تعكس حضارة سعربية شمالية'، كاسم الإله قوس والعزى، التي يشار إلى معبدها في أحد النصوص. يذكر أحد النصوص كلمة يقرأها لومير 'إدنا' ويطابقها مع قرية إذنا التي لا تبعد كثيرا عن خربة الكوم. ولا بد من الإشارة إلى أن الكسر الفخارية التي عرضها الباحث الفرنسي لم تستخرج من الموقع بشكل شرعي، ووصلت إلى بعض الباحثين عبر تجار التحف القديمة. ومن المؤسف أن دائرة الآثار الفلسطينية لا تقوم بالجهد الكافي لتطويق ظاهرة استخراج الآثار من خربة الكوم والكثير من المواقع الفلسطينية، ولكن لا بد أيضا من الإشارة إلى أن نشر هذه الكتابات كما يفعل الإسرائيليون أو المحاضر يشجع على التجارة بالتحف القديمة وفي النهاية يؤدي إلى زيادة التخريب الحاصل في المواقع الفلسطينية. وتراث خربة الكوم يخص الفلسطينيين في الدرجة الأولى وينبغي أن يبقى بين أيديهم.
نص سرياني جديد عرضه كابي أبو سمرة (جامعة الكسليك، لبنان) وهذا النص يمثل تعويذة كتبت على سطح طاسة خزفية. ويقول المحاضر أن الإناء جاء من جنوب العراق ويشبه طاسات تعاويذ مكتوبة بالأرامية وعثر عليها في تل نفر (نيبور القديمة) أو منطقتها. وحسب المحاضر تعود القطعة لمجموعة تحف شخصية، ونحن نرجح أن القطعة مزورة وربما حصل ذلك في العراق وهربت لتباع في سوق التحف القديمة في لبنان. وكما بالنسبة لنصوص خربة الكوم، فإن التعامل مع هذا النوع من الآثار حتى لو كان مزورا يساهم في تشجيع التجارة في التحف القديمة والفنية ويعني تخريب المواقع الأثرية العراقية، التي تعرضت إثر الغزو الأميركي للعراق إلى أخطر عملية تدمير ونهب.
قبيلة حويلة
عثر على النقش الذي عرضه محمود الروسان (جامعة اليرموك) في وادي سلمى ويحتوي على إشارة إلى مناوشات بين قبيلة عربية والأنباط. ويرى الباحث أن هذا حصل في فترة ضعف مملكة الأنباط العربية أي بين القرن الأول قبل الميلاد والقرن الأول بعده. هذه القبائل تتحرك من الجنوب إلى الشمال كقبيلة حويلة التي ذكرت في هذا النص، ونصوص أخرى، وربطت في الماضي بقبيلة 'حويلا' في التوراة (التكوين 25، 18) وبحوالة، أحد فروع أزد. يشير الباحث إلى معلومات جديدة مفادها أن هذه القبيلة لا علاقة لها بشاهد التوراة. وعرض الباحث في محاضرته أيضا الإشارات إلى الأنباط في النقوش الصفوية. والجدير بالذكر ما لاحظه الباحث يونس شديفات (جامعة مؤتة) من أن كلمة 'وسق' ما زالت تستخدم بين البدو اليوم، ولا تتعدى مدلولاتها مجرد عملية غزو بسيطة تحتجز فيها بعض الأغنام لغرض المقايضة والضغط على قبيلة أخرى. هذه الملاحظة تبين من جديد مدى أهمية المقارنة بين القديم والحديث في إيضاح ما غمض من نصوص أو إعادة الموروث الشعبي إلى جذوره.
متاهات
أحيانا تضاف إلى النقوش الصفوية صورة، قد تكون من نقش صاحب النص المكتوب، وتعكس مدلولا يحمله النص المرافق. الرعي والفروسية هي المواضيع المفضلة في هذه الرسومات. لكن هناك أيضا صورا لعازفي آلات وراقصات ومصائد حيوانات، كل هذا يعكس المبدأ القديم لرسومات الكهوف وهو استرجاع صورة النشاط اليومي وتثبيته ماديا في الرسمة أو النقش على الحجر. إلى جانب النصوص والرسومات هناك أحيانا رموز سحرية للحماية ودرء الشر، ومن بين هذه الرقم سبعة. لكن هناك أيضا صورا لمتاهات وهو موضوع محاضرة محمد إبراهيم عبابنة (برلين)، الذي فحص بشمولية ظهور هذا العنصر الغريب في الحضارات المختلفة، وحتى الأوروبية، وتبين المحاضرة أن الأصل في المتاهة هو الصليب الذي تبنى عليه خطوط المتاهة انطلاقا من نقطة تقاطع خطي الصليب.
تفسير النقوش
ثمة نقوش كتبت باليونانية أو اللاتينية وفي هذه النقوش أيضا إشارات إلى المجتمع المحلي الذي لم يفقد خصائصه الأساسية من خلال الهيمنة السياسية الخارجية. نبيل عطا الله (جامعة اليرموك) عرض الأسماء المؤنثة في النقوش اليونانية من أم الجمال، التي ما زال عدد منها غير منشور بعد. وأشار إلى أن حوالي 82% من الأسماء هي من لغات قريبة من العربية. ومن بعض ما ذكره هو أن المرأة تسمى بأم فلان كما هي العادة بيننا اليوم. وعرض أحمد العجلوني (جامعة اليرموك) بعض الألقاب النبطية التي تعود إلى أصول يونانية أو لاتينية. أمثلة على ذلك: 'هافركا' وتقابل اليونانية إيبارخوس وتعني 'قائد الفرسان'؛ قونطيرينا وتقابل اليونانية كينتاوروس وفي اللاتينية سينتوريو وهو سقائد الخيالة'.
تفسير النصوص هو جانب من جوانب حقل دراسات النقوش وهو يتجدد باستمرار مع تقدم معارف الحقل. البحاثة في مجال النقوش يعتمدون على النسخ في دراساتهم للمادة النقشية وقد لا تكون النسخة مطابقة للأصل أحيانا بسبب سوء فهم علامات النقش، ولهذا تبرز الحاجة إلى فحص النقش في مكان وجوده الأصلي، أو في المتحف الذي حفظ فيه الحجر أو الرقيم، أو إعادة نسخه أو تصويره. هذا ما فعله الباحث الألماني راينهارد ليمان (جامعة ماربورغ) بالنسبة لنقشين معروفين لأحيروم عثر عليهما في جبيل، فزار الموقع وصور النقش الأول الذي حمله التابوت ونزل في الخندق الذي يوجد على أحد جدرانه النقش الثاني وصوره. وقدم الباحث تفسيرا جديدا للنقشين.
الإله سين في نقش صفوي
تفسير جديد وجريء قدمه الباحث الأردني زياد عبد الله طلافحة (باحث حر) لنقش صفوي يرافقه رسم لهلال فسر في السابق على أنه يتضمن إشارة إلى خسوف القمر. حسب المحاضر الكلمة 'سني' تعني في النص الإله سين المعروف في الحضارة الأكدية ويقابله في الحضارة السومرية نانار وهو معروف أيضا في النقوش القديمة لجنوب الجزيرة العربية. يفسر الباحث النقش بأنه يعني انشقاق القمر كما ورد في الآية الكريمة : 'اقتربت الساعة وانشق القمر'(سورة القمر)، وقد يكون في هذا مؤشر إلى تاريخ كتابة النص، بالرغم من أن النقوش الصفوية تعود إلى فترة أبكر. وقد اعترض البعض على تفسير المحاضر فالإشارة إلى أن الإله الأكدي سين يذكر في النقوش الصفوية مرة واحدة فقط ومن الأفضل تفسير الكلمة بشكل مختلف.
أخْذة كيش
شكل آخر من أشكال تفسير النصوص القديمة هو تقديم تحليل لغوي يعتمد على نظرة جديدة تستفيد من اللغة العربية وظواهرها الصوتية، هذا ما فعله يحيى عبابنة (جامعة مؤتة) بالنسبة لنقش أكدي عثر عليه في كيش، إحدى المدن الكبرى للعراق القديم وتقع إلى الشرق من بابل. النص هو تعويذة ('أخْذة') يلجأ فيه الرجل إلى الآلهة لمنع زوجته من إقامة علاقة جنسية مع غيره. ويقارن الباحث ألفاظ النص بالعربية، وهذه المحاولة الجديدة في التفسير تستحق الاهتمام، خاصة وأن النصوص الأكدية تقارن في الغرب بالعبرية في حين أن العربية هي اللغة الحية الأولى التي ينبغي مقارنة لغات الأصل الثلاثي معها. غير أن 'التأخيذ' في التراث العربي هو أن تحتال المرأة بحيل لمنع زوجها من إقامة علاقة جنسية مع غيرها، ويقال 'لفلانة أخذة تؤخذ بها الرجال عن النساء' (لسان العرب).
اللهجات العربية
بالإضافة إلى العربية الفصحى بالإمكان الاستفادة من اللهجات العربية الحديثة في تفسير النصوص القديمة المكتوبة بلغات الأصل الثلاثي. العلماء الغربيون الذين وضعوا أسس معظم حقول اللغات القديمة يستعينون في الدرجة الأولى بعبرية التوراة ونادرا ما يلجأون إلى اللغة العربية، بالرغم من الإقرار بأن العربية احتفظت في بنيتها وخواصها الصوتية ببعض الظواهر القديمة للغات الأصل الثلاثي. وهناك تهمل بالكامل اللهجات العربية الحديثة وكأنها غير موجودة. غير أن هذه اللهجات لم تنبثق من فراغ بل هي امتداد للهجات القديمة أو لغات قديمة كالأرامية. وفي الجزيرة العربية، في شمالها وجنوبها، العديد من اللهجات التي ما زلنا نحن العرب في بلاد الشام، وبقية البلدان العربية، نجهلها كلية ولا نستفيد منها في دراسات النقوش القديمة. عبد الرحمن الأنصاري (دار القوافل للنشر، الرياض) نبه في ورقته إلى أهمية إجراء المقارنة بين اللهجات الحديثة واللغات القديمة وقدم نصا من لهجة فيفاء، التي تقع في جيزان جنوب غرب المملكة العربية السعودية. وأشار الأنصاري إلى ما قام به زميل له في استعمال اللهجة العامية (البدوية) في قراءة نصوص لحيانية من العلا تعود إلى القرن السادس قبل الميلاد ونجحت المحاولة!
محاضرة آمنة الزعبي (الجامعة الهاشمية) تناولت استخدامات الواو والياء في النقوش الثمودية وأشارت إلى تطور هذه الاستخدامات فإذا ظهر الحرفان كانا صامتين وإذا أسقطا فيدل ذلك على أنهما قد أصبحا حرفي علة. تكمن أهمية محاضرة الزعبي في أنها نبهتنا إلى أنه يمكن الاستفادة من اللغات القديمة التي سبقت العربية، لكنها قريبة منها، في تفسير ظواهر لغوية في اللغة العربية وتحديد أصولها. وما زالت هذه الدراسات غير معروفة في العالم العربي وهو ما يثير الاستغراب إلى حد بعيد، خاصة وأن معرفة الأصول هو الأرضية المناسبة لتحديد الهوية الحضارية وجذورها وهي أيضا وسيلة أساسية لتفعيل اللغة وتغذيتها.
جاؤوا من عمان!
معرفة الأصول لا تقتصر على اللغة. محاضرة حسين القدره (الجامعة الهاشمية) وإبراهيم صدقة (وزارة التربية والتعليم) حول الحج من خلال نقوش عرب شمال الجزيرة العربية هي نموذج جيد للآفاق التي تفتحها دراسة النقوش في فهم موروثــــــــــــنا العـــــــــــــــربي الإسلامي. فمثــــــــــــــلا النقوش اللحيانية تشير إلى ممارسة الحج من قبل مجموعة جاءت من عمان (!) إلى الإله اللحياني 'ذو الغيبة' في العلا، شمال الجزيرة العربية، وفي النقاش أشار عبد الرحمن الأنصاري إلى أن 'ذو الغيبة' يقصد به 'الغائب' أي الله عز وجل. وأشار المحاضر إلى أن طقوس الحج تشترط الطهارة والاغتـــال حسب بعض النقوش ونصــوص أخرى تشير إلى الطواف.
أضواء على مملكة ميسان
المسكوكات التي أخذت بالانتشار ابتداء من القرن الرابع قبل الميلاد تحتوي على نقوش وصور، ودراستها لا تختلف كثيرا عن موضوع النقوش على المواد الصلبة. الباحث فرج الله أحمد يوسف (دار القوافل للنشر، الرياض) خصص محاضرته لموضوع المسكوكات من شرق الجزيرة العربية قبل الإسلام. الموضوع مثير والمعلومات التي قدمها الباحث شبه مجهولة خارج الجزيرة العربية. كشفت التنقيبات الأثرية في شرق الجزيرة العربية عن مسكوكات في العديد من المواقع شرق الجزيرة العربية، ومنها: البحرين (تايلوس قديما) وثاج وعين جاوان وجبل بري والشعبة ومنجم الملح والهفوف وكنزان والدور (عمانا قديما) ومليحة وجزيرة فيلكا (إيكاروس) وتاروت والهفوف. وهناك أيضا في شرق الجزيرة العربية مسكوكات ظهرت عليها أسماء عربية جنوبية لملوك كتبت بخط المسند مثل حارثة و'أب _ يثع' و'أب _ إيل' وهما اسمان مركبان ويحتويان على اسم الإله سأب'، الذي قد يكون الإله الرئيسي في شرق الجزيرة العربية. وتجدر الإشارة إلى أن الكثير من قوالب السك قد عثر عليها في بعض المدن كثاج وكنزان ومليحة، وهو ما يدل على أنها كانت مراكز تضرب فيها المسكوكات ولها أهمية اقتصادية خاصة. وعرض المحاضر مسكوكات من مملكة ميسان التي كانت خاضعة للملكة البارثية الفارسية بين 129 قبل الميلاد إلى 222/223 ميلادية. ومن مدن ميسان: فرات، وأبولوجوس (الأبلة في المصادر العربية، البصرة فيما بعد) وأباميا (أفاميا)، وعرفت مملكة ميسان في المصادر اليونانية باسم شراكس أو خراكس، وتعني ميسان في الأرامية 'المدينة المسورة'. ويشير الباحث إلى أن ممالك شرق الجزيرة العربية كانت على اتصال مع الممالك العربية في الجنوب والشمال بالرغم من نفوذ القوى الأجنبية وتنافسها على المنطقة. وختم الباحث محاضرته بمعلومة مؤلمة هي أن المتحف العراقي في بغداد كان يحتفظ بنحو أربعمائة مسكوكة ضربت في عهد تســـــــــعة من ملوك ميسان، لكنها كانت ضـمن المواد التي نهبت مع الاحتلال الأميركي للعراق في نيسان 2003.
أهم مصادر التاريخ الحضاري
إذن، زخم مادة النقوش والكتابات القديمة يجعل منها إلى جانب الآثار أهم مصادر التاريخ الحضاري للعالم العربي، والمعلومات حول هذا التاريخ تزداد مع كل اكتشاف جديد ما يتطلب إعادة النظر في كتابة فصول التاريخ العريق للأمة العربية وبشكل تلقائي إعادة صياغة المناهج المدرسية. مؤتمر النقوش والكتابات القديمة ليس مجرد محفل أكاديمي جاف منفصل عن الواقع الذي نعيش فيه. ففي هذه المحاضرة أو تلك يشعر المتلقي أن هناك أزمة تمر بها الحضارة العربية الإسلامية يحاول حتى الأكاديميون التصدي لها كل على طريقته وبما يتناسب مع منهجية موضوعه، ابتداء من النقوش الصفوية وانتهاء بالمسكوكات.
واليوم، وفي حين يقف العالم العربي على مفترق طرق، تنطوي العودة إلى الجذور على أهمية بالغة أكثر من أي وقت مضى، فإما أن نتشبث بجذورنا مهما أوغلت في القدم ونعيد صياغتها من خلال الدراسات والتفسير والتحليل، أو ننفصل عنها ونتحول بالكامل إلى شعوب مستهلكة تابعة لحضارة الهامبرغر والكوكاكولا.