اشتُقّت الحياة وفق مقولات الفلاسفة من الماء والنار والتراب والهواء. ومن بين هذه العناصر فإن الأول يشكل نحو 70 % من المركب الكوني.
وقد ارتبط هذا الحضور بالخلية الأولى للكائن، كما ارتبط بمراحل تطور الإنسان، ليس في ما يلبي حاجته الحيوية والوظيفية، بل في ما يرتبط بالمزاج الثقافي والحضاري لاستمراره وبقائه وتطوره وسلوكه.
وبالكيفية التي شكل فيها حضور الماء المكوَّن من جزيء (H2o) المزاجَ العام لدورة الحياة في الطبيعة، فإن غيابه -أو ندرته- ترك مساحة واسعة للحضور في المرموز الثقافي بوسائل البلاغة والخيال ومشاعر الخوف والبهجة.
ولفرط ما عاشت الأشياء مع الكائنات منذ الأزل، فقد خلق الإنسان سرديته التي تحاول تفسير تلك العلاقة، وكان مثل هذا التفسير لما يراكم عليه الزمن من أزمان وحكايات وأساطير، يقع في منطقة الغموض، الغموض الجميل الذي يبعث في النفس الشوق للمعرفة والحفر عن أسرار الأشياء.
حضور الماء في الذاكرة والوجدان والإنساني والعربي تحديداً، تجلى في مسميات الجغرافيا والتاريخ، ووسائل الإنتاج والتشكيل الاجتماعي والنصوص الأدبية والكتابات المثيولوجية والأسطورة والثقافة، معْرباً عن سرديةٍ ما تتصل بالوعي الجمعي الذي ترك المعنى مزاجاً للإفصاح عن ظلال المكان، وتشكيلات المجتمع وبناءات النصوص.
ظلت المعاني التي تركها غياب الماء أو حضوره في الثقافة أسراراً تستدعي الحاجة إلى تفسير يقارب الترميزات، فغالبية الأسماء التي تحملها الأمكنة تنتمي لسلالة الماء، ومنها: الأردن بما يتصل بالنهر، بلاد الرافدين، بلاد النيل، وشبه الجزيرة العربية، وشبه جزيرة سيناء.
وهو سؤال يمكن أن يتوقف عنده الباحث في الإزاحات التي وقعت على المفردة بكيمياء الماء، والمعنى الذي تعدد في: العين (عين الماء، عين الإنسان)، العين (المراقب أو الجاسوس)، والعين (عضو مجلس الأعيان).
في النص القرآني ثمة الكثير من الآيات التي تتصل ليس بنشأة الحياة، بل في فنائها، تتوقف عند الماء: «وجعلنا من الماء كل شيء حي»، وفي نهاية الكون تعود دخاناً، وهي حالة من حالات الماء (البخار).
وارتبطت الحكايات بنصوص مائية تتصل ب: شق النيل وغرق فرعون وقصة التيه، دخول العبرانيين إلى فلسطين، حفرة الانهدام، بحيرة لوط، بئر زمزم، المغطس، قصص موسى ويوسف وإسماعيل في القرآن الكريم.
وكما قامت حضارة البترا على سر الماء، فإن هجرات عرب الجنوب شمالاً، إلى بلاد الشام أو إفريقيا أو المغرب العربي، كان سببها انهيار سد مأرب، وبعدها حكاية بني هلال، وعلى الماء قامت تضادات الحياة في أسطورة تموز، وقصة الانتخاب في «الطوفان».
في الحضارة العربية، يتأسس التشكيل القبلي على فكرة القوة والوفرة، وأن الهيكلة التي شكلت نواة الدولة العربية أفردت للماء (السقاية) ركناً أساسياً في بنية «الحكومة»، وهو ما كان محل خلاف على ملْكية بئر زمزم.
وفي مجال الثروة، فإن الماء هو أصل الأحجار الكريمة التي تتكون من روح الماء تحت شروط الحرارة والبرودة في طبقات الأرض، ليتكون منها العقيق والفيروز، كما أن اللؤلؤ كائن مائي قبل أن يتحول إلى خرزة ثمينة.
وفي الأسطورة والمثيولوجيا، فإن لكل من هذه الحجارة أثره النفسي والطبي الذي يندى عن فكرة الماء في صورته الأولى بما يترك على الكائن من سماته وطباعه.
وظلت أسطورة نرسيس مصدر الصورة والمرآة والحقيقة والوهم، لنرانا، ونقترحَ النص في المتخيل.
لم تخلُ الأحداث المعاصرة وأسباب الحروب وتطور الآلة من صلة مع الماء والبخار، في مغزى الصراع الذي يتكثف في معنى الحياة ومنظومتها الثقافية.
ثمة الكثير من السرديات التي تركها الماء في حضوره وغيابه في التاريخ والجغرافيا، لكن الرواة لم يحفروا عميقاً وراء المعنى.
