انها المفارقة !! ان نتكلم عن «الليبرالية» في زمن غير ليبرالي، وبعيد عن جميع «المعاني» التي ارتبط بها ذلك العصر ورجاله، بصيغة من صيغ التعبير، كالحرية، والديمقراطية، وحقوق الانسان... وحتى لو كان هذا «الكلام» وان جاء مؤطرا بما هو تاريخي، هو من قبيل الحديث عن زمن «ضائع». وإذ نتناول موضوعا كهذا، في اطاره العربي، لا بد من عودة الى مفهوم الليبرالية. التي انطلقت من اوروبا وتاريخ اوروبا الحديث، فهي البعد الفكري، وشكل التنظيم السياسي للطبقة البرجوازية الصاعدة في اوروبا، من ناحية والممتدة الى باقي العالم، عبر ديناميكية توسع وانتشار الرأسمالية /الاستعمار من ناحية ثانية. اصطدمت الرأسمالية في مناطق توسعها، وخاصة في اسيا، وبشرقنا العربي، ببنى اجتماعية اقتصادية/سياسية كانت متطورة، ذات يوم لكن انحلالها الداخلي اولا ثم العهد الرأسمالي في اوروبا، جعلاها متخلفة ومتجاورة تاريخيا وغني عن القول ان حركة الرأسمالية، في امتدادها الى مناطق ما قبل الرأسمالية العالمية، أي الى اسيا، والمناطق العربية، كانت تؤدي الى ادخال هذه المجتمعات، وآليا في مسير حركة الرأسمالية التي كانت اوروبية في لحظة نشأتها، لكنها تحولت الى عالمية بديناميكيتها، وانتشارها، وتوحيدها للعالم، فالعالم كله اصبح سوقا، ومدى لهذه القوه الصاعدة والممتدة، ولكن كان لعملية توحيد العالم الرأسمالية هذه تناقضاتها ايضا، فقد تم التوحيد على اساس وجود مركز صناعي علميا، ورأسماليا، اقتصاديا، وليبراليا، سياسيا، وسوقا مفتوحة، عالميا، في المقابل وجدت اطراف، هي المناطق ( السوق ) التي غزتها الرأسمالية، بل جاءتها الرأسمالية من الخارج، ووحدتها مع المركز، وبالتالي بشروط القوي الذي فرض الوحدة ! فليكن هناك امتداد للنظام الرأسمالي، في هذه المناطق، لكن دون تكنولوجيا وعلوم وصناعة، وليكن هناك دولة حديثة، ذات مجتمع واقتصاد متساوقين مع المجتمع الرأسمالي واقتصاده، لكن دون ديناميكيات الانتاج الرأسمالي، ووسائله الأساسية، وليكن هناك حكومات حديثة، لكن دون ليبرالية... وبالطبع هذا ما حدث، لكن ليس نتيجة تخطيط مسبق. او مؤامرة مسبقة حتما، بل وبما كان ذلك نتيجة منطقية لسيطرة القوى الرأسمالية، وتحويلها المناطق «المفتوحه» والمدمجة حديثا في النظام الرأسمالي، الى مناطق مواد اولية، ومناطق استهلاك. هذه الالية التوحيدية للعالم، على المستوى الاقتصادي، بل والجغرافي، كان يرافقها الية فكرية اخرى، اذ اصبح الفكر، عالميا، مع هذه العالمية الجديدة للجغرافيا الاقتصادية. للانتاج والاستهلاك والانتقال والثقافة، وهكذا اصبح بامكان الصيني، والهندي، والعربي، والتركي، والافريقي، ان يحصل، في باريس، ولندن، على اعلى الدرجات العلمية ( مثلما يستطيع المغربي ان يعمل حمالا في مرسيليا او لندن )، وان يطلع على مجمل التاريخ الثقافي الاوروبي، بل وان يقارب ويتأثر بانماط التفكير والتنظيم السياسي السائدين في البلدان المتقدمة، فالفكر صار عالميا، واذا كان من الصعب الحصول على مصنع، او بنائه، فان الحصول على فكرة او كتاب اسهل، والتأثر بالفكر، مهما كان الواقع المحلي، يبدو اقل صعوبة، واعتقد ان الاشكال، او المفارقة، التي سأتحدث عنها، والتي وقعت ضحيتها الليبرالية العربية، بدأت من هنا. تكمن مفارقة الليبرالية العربية او مأزقها في انها تيار فكري تكون في ظروف انتشار وسيادة الليبرالية الاوروبية المحمولة على حامل الرأسمالية والصناعية اوروبيا، لكن في واقع ما قبل رأسمالي، او مدمج في الرأسمالية العالمية، ومن موقع التابع والتخلف، فحينما كانت الليبرالية الاوروبية امتدادا، وبعدا فكريا وسياسيا، للثورة الصناعية، وللرأسمالية الاوروبية او العالمية فيما بعد، لم يكن هناك، في البلدان العربية، ثورة صناعية، او رأسمالية، وبالتالي بدت هذه الليبرالية العربية مهيضة الجناح، وربما بدت وكأنها رأس بلا جسد وهذا ما سهل الانقلاب السريع عليها، سواء اتى هذا الانقلاب على نظمها السياسية من طرف الجيش، منذ الخمسينات، ام اتى الانقلاب الفكري، والذي اتى، هذه المرة، منذ اواسط السبعينات، ومن طرف السلفيين، ببساطة كانت اللبيرالية العربية ضحية عالميتها ومحليتها معا، ضحية مأزقها، مأزق عدم وجود قاعدة اجتماعية واقتصادية وعلمية وفكرية «محلية» حاملة لها. هذا الكلام لا ينفي اهمية، وريادة الليبرالية العربية، واعني بالليبرالية العربية تلك التيارات الفكرية والممارسات السياسية، التي ازدهرت في النصف الاول من هذا القرن العشرين، والتي مهدت لها الافكار التي ظهرت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ابتداء من رفاعه الطهطاوي، مرورا ببطرس البستاني، وخير الديني التونسي، ووصولا الى الشيخ محمد عبده، وعلي عبدالرزاق، وساطع الحصري او حصر زغلول، وعبدالرحمن الشهبندر، وطلعت حرب وخالد العظم. يبدو ان الليبرالية العربية نشأت واجهضت ضمن نتيجة مأزقها التاريخي، ومع ذلك ما تزال قضايا هذه الليبرالية، ومهماتها هي قضايا ومهمات المستقبل العربي، فالعلمانية والاصلاح الديني، والديمقراطية، والعقلانية، وهي المهام والقضايا التي تطرحها الليبرالية في منطوقها ومفهومها، وان كانت نبتت في مجتمع مغاير، ما تزال السبيل الوحيد لدفع المجتمع العربي الى الامام، واحلاله مكانه، ومكانته، كشريك متكافئ في هذا العالم الجديد حقا.