عندما قدم جورباتشوف لشعوب الكتلة الشرقية في سنة 1986 سياسته في البيروسترويكا- أو إعادة البناء- كان يؤمن بأن السلام في القارة القديمة سوف يخلق بالضرورة شرخا واسعا في العلاقات الأميركية الأوروبية، دافعا للسطح كل التناقضات بينهما لتقوم بدورها في تفكيك هذه العلاقة. وعلى الرغم من أن سياسة جورباتشوف كلفت الاتحاد السوفيتي كثيرا جدا، إلا ما توقعه جورباتشوف في تطور العلاقات الأوروبية الأميركية قد حدث فعلا، وهو الموضوع الذي تناوله كتاب كثيرون من قبل. لكن التطور الذي أراده جورباتشوف لم يكن تطورا منفلتا من كل سيطرة. لقد تصدت له عدة منظمتات تربط دول الحضارة الغربية على حافتي الأطلسي، منها منظمة (أو مجلس) الأمن والتعاون الأوروبي ( 55 دولة) تمتد من وسط آسيا إلى كندا والولايات المتحدة، ومنظمة حلف الأطلسي، والاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، (26 دولة). وقد بادر الحلف، ومنذ انتهاء الحرب الباردة، بالتصدي للتحديات الناجمة عن انتهاء هذه الحرب وتجاوزها، وذلك بالتعاون مع المجلس المشار إليه ومع الأمم المتحدة ومجموعة الثماني الكبار، بالإضافة للاتحاد الأوروبي، ثم ثانيا بإحداث تحول جذري في تنفيذ مهماته الأساسية، وهي أمن الدول الأعضاء فيها، بتوسيع تلك المهمات لتشمل الأمن في أوروبا والبحر المتوسط والشرق الأوسط. كما أنها بادرت إلى إضافة تعريف جديد وهام لمعنى «الأمن» التي تعمل على ضمان عدم تعرضه للتهديد. فالأمن ليس الأمن العسكري وحده. لقد انتهى تهديد أمن الدول الأعضاء في الحلف، بهذا المعنى، بانتهاء الحرب الباردة، وصار التهديد يتعلق باستمرار النزاعات الإقليمية والمذهبية والعرقية؛ وبندرة المصادر الطبيعية والتنافس بين الدول لامتلاك هذه المصادر، باستعباد الدول الأخرى ذات الحقوق، مثل المياه في منطقتنا؛ وتلوث البيئة، والإرهاب العابر للحدود الذي أصبح هما دوليا مشتركا؛ واستبعاد الشعوب عن المشاركة في القرارات السياسية التي تهمها، والاستمرار في مصادرة الحريات إما كنهج حكومي، كما اعتادت أن تفعل الأنظمة الشمولية، أو بعدم التصدي للثقافات المجتمعية التي تخلق فجوات يصعب تجسيرها وخاصة في حالة غياب الحكم الرشيد وحكم القانون. وتمثل الدور الجديد للحلف أولا، بتعميق الحوار مع الدول الأعضاء على كل المستويات، حسب أولويات العمل، كما تراها هذه الدول، التي تخدم المصالح المشتركة للجميع وتساهم في إرساء السلام الوطني والإقليمي؛ ثم بالتعاون معها على الأرض للمساعدة في حل كل تلك المشاكل؛ بالإضافة إلى توسيع دوائر الحوار ليشمل قادة الرأي في المجتمع المدني، والبحث معهم فيها، وتشجيعهم على المبادرة في البحث العلمي الذي يتناول كل هذه المواضيع المطروحة، والتعاون معهم في هذا المجال. في هذا السياق، جاءت زيارة فئة ممثلة لمؤسسات المجتمع المدني الأردني لقيادة الحلف والاجتماع بمسؤوليه والمشاركة في ثماني محاضرات حول دوره الجديد سوى واحدة من عمليات مماثلة أجرتها إدارة الحلف مع كل الدول المشاركة ودول الحوار- الدول المتوسطية. ولقد دار نقاش حول دور الحلف في التدخل في النزاع الفلسطيني الإسرائيلي، وخاصة في ضوء حدثين هامين أولهما اجتماع أبو مازن- شارون الذي كما يبدو لم يؤت نتائجه وفقا لمحادثات والتزامات شرم الشيخ بينهما؛ والثاني هو القرار الذي كان قد صدر لتوه من قبل الجيش الإسرائيلي بالاستمرار في استهداف الفلسطينيين بسبب الفعل الإسرائيلي ورد الفعل عليه من قبل منظمات العمل الفلسطيني. وكان الجواب الذي تلقاه المشاركون في الندوة يؤشر بما لا يدع مجالا للشك على دور الحلف السياسي الحذر في التعامل مع هذه القضية تمثل في التالي: أولا أن السلطة الفلسطينية ليست دولة بعد، والحلف لا يتعامل إلا مع الدول، إلا إذا وجهت دعوة للحلف من قبل الطرفين للتدخل. ومع ذلك، فقد أرسل الحلف وفدا لفلسطين وإسرائيل بداية هذا الأسبوع لجمع الحقائق ومحاولة التأثير في القرارات المتخذة لصالح السلام. علما بأن دور الحلف هنا هو دور تكاملي مع أوروبا والأمم المتحدة؛ ثانيا أن خريطة الطريق لا تزال قائمة، وتدعمها الرباعية: الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة وروسيا والولايات المتحدة نفسها. ذلك تطور مهم وخاصة في ضوء الموقف الأميركي من القضايا المتعلقة بهذا النزاع، كما جاءت في المحادثات التي عقدت بين أبو مازن والرئيس الأميركي جورج بوش مؤخرا، وهو موقف إيجابي ويمثل عودة أميركية إلى أساسيات الصراع وحلها ضمن رؤية عادلة قابلة للدوام. لقد لاحظ المشاركون أن التعاون بين المملكة الأردنية الهاشمية والحلف، باعتبار الأردن دولة من دول الحوار المتوسطي، كان خطوة أردنية خلاقة لحشد كل القوى الدولية والإقليمية الفاعلة لصالح السلام والاستقرار في المنطقة، وخاصة في ضوء الدور الجديد للحلف كمنظمة عبر حكومية معنية بمعالجة كل القضايا التي يعاني منها الأردن ودول المنطقة العربية عموما.
