الشفافية جزء لا يتجزأ من الإصلاح، ومظهر أساسي له. وقد جاءت الرسالة الملكية إلى رئيس الوزراء عدنان بدران مصداقاً على ذلك، فقد كشفت الرسالة الأسباب المباشرة والعميقة لقبول استقالة وزير المالية باسم عوض الله، وهي الرسالة التي قرأها بإمعان كل من يقرأ. فقد بلغت شخصنة الأمور درجة تجري فيها مناوأة مشاريع الإصلاح، بذريعة استمرار مسؤول في منصبه، لم يشكك أحد يوماً في كفاءته ومثابرته والتزامها بالرؤية الملكية. وبما أن الأمور بلغت هذا المبلغ، وبما أن طموحات الإصلاح تتعدى الأشخاص أياً كانوا، فقد جاء قبول الاستقالة "من باب التضحية"، كما جاءت استقالة الوزير من زاوية نكران الذات. ويقيناً أن هذه الدرجة من الإيثار الملكي وبصورة علنية، تؤسس لتقليد جديد في حياتنا السياسية الأردنية، مفاده أن الاكثر أهمية من أي اعتبار ضيق آخر هو مصلحة الوطن ومصلحة الأردنيين جميعاً، وخاصة مصلحة الأجيال الجديدة في رؤية أردن عصري يقوم على المأسسة ودولة الحق والقانون ويطلق طاقات أبنائه، في إطار من العدل والمساواة وتكافؤ الفرص، وعلى أساس من المواطنة الحقة (وهذه عماد نجاح الدول المتقدمة). لقد جاءت الرسالة الملكية غير المسبوقة شديدة الوضوح في أهدافها ومراميها، فالمقصود بهذه التضحية، إن يثبت الجميع عند الاقتضاء الاستعداد لها، إذا ما كان رائدهم هو مصلحة الأردن وتعظيم قدراته، والمضي به على طريق التحدي والتطوير، وشمول التنمية لجميع مناطق المملكة ولسائر أبناء هذا الوطن. وفي الإطار نفسه، فقد جاء قبول الاستقالة من باب سد الذرائع، ووضع الجميع أمام مسؤولياتهم ليحددوا خياراتهم: هل هم مع التحديث والمأسسة أم مع البيروقراطية ونموذج الدولة الربيعية، هل هم مع المصالح الفئوية الضيقة أم مع نشر قيم العدالة وتكافؤ الفرص على امتداد مساحة الوطن الأردني. هل هم مع المراوحة في المكان والحفاظ على الأنماط القديمة للإدارة والأداء، أم مع التطوير وتجاوز الصيغ الجامدة كما فعلت دول آسيوية وأوروبية شرقية. هل هم مع تقوية النسيج الاجتماعي، وتعزيز روابط الإطار الوطني، ورفض التقسميات والتصنيفات التقليدية، أم مع العودة إلى الوراء ووضع الحواجز المفتعلة بين الناس، وإثارة انشغالات جانبية لا صلة لها بعملية التنمية السياسية وكل تنمية أخرى ؟. لقد شدد جلالة الملك ، على أن الإصلاح برنامج وطني لا رجعة عنه. وهذا البرنامج ليس مجرد خيار بين خيارات أخرى، إذ أنه يعكس أفضل خبرات مجتمعنا وخبرات الدولة والشعب التي انطلقت على طريق التقدم وحققت ما حققته من نتائج بعيداً عن التقوقع على الذات، والتشكيك بمبدأ الإصلاح، وقد بلورت تلك الشعوب هويتها الوطنية في خضم البناء والتطوير والعصرنة، وتفعيل الطاقات واستثمار الفرص والتفاعل مع أفضل منجزات العصر، في مجال التعليم والفكر السياسي والدستوري. والآن وبعد الدخان الكثيف الذي تم إطلاقه، وبعد اللغط الذي دار هنا وهناك، والذي كان يتركز على مناواة الإصلاح أولاً ثم شخصنة الأمور ثانياً، فقد جاءت التطورات الأخيرة بقبول استقالة وزير المالية، لكي تضع حداً لحالة الخلط، وتضع الجميع أمام مسؤولياتهم في الوفاء لحاجات الأردنيين وتطلعاتهم، في اللحاق بركب العصر والإسهام الإيجابي الفاعل فيه.