لا أدري يا رحاب العزيزة كيف أعزيك وأنت ما زلت توزعين «مطبقيات اللوز والسكر» لفرح العريس؟ ولا أدري والله كيف أقترب من بيت العريس الواقف طوال الليل شمعة يستقبل الاصدقاء والأهل والجيران حتى الفجر البهيم! هل أشعل فانوس الليل من زيت الفرح لمأتم الرحيل للعريس؟ فلقد امتزجت عندي الاسئلة النائحة والمفاجأة تهز كياني!؟ وأنا التي كنت أعد العدة لأقدم باقات التهنئة معك والفرح الممزوج بورود البنفسج لحائط الشباب العالي، في عقد قران علي العزيز .. ولا أدري كيف يا رحاب أجفف النهر المنبثق من محاجر السخاء الدامي في جبيني؟ ولا أدري بأي لغة من المناحات البيضاء ارفع منديل الحزن! والحقيقة ان كل المناديل البيضاء توردت بالمزق والدموع على جدران بيتك الوارف بالوداع حتى آخر الطريق ...! يصعب علي التعبير يا الحبيبة .. يا أم علي .. يا ابنة الغالية الراقية عملا وعطاء ونشاطا على هذه الارض الطيبة الجريحة! تضمد بعض خدوشها وتضمد بعض نزيفها بعشق الأرض الاردنية والانغراس في التراب والصخر والشوك والورد من أجل الإنسان في هذا الوطن المحزون!. في هذا الفجر الهادئ الناعس في أكناف النجوم الآفلات يا رحاب، حيث الشمس تبزغ باستحياء عابق بالتباطؤ كي لا تزعج النائم المسجى على فراش الوداع! وحيث العصافير تزقزق بكثرة مناقيرها الملونة المتناغمة على أسوار بيت الجيران المسيج بالياسمين! وحيث الورود البنفسجية تهادت في شناشيل العناقيد على زوايا البيت، وحيث تطل رحاب في الصباح الباكر تنشر مياه الحديقة على جدران المنزل الورع في انطلاقة الأذان من مسجد دار السلام قرب بيتنا في عبدون! أنظر الفانوس الخافت في قلبي الطعين ليضيء بقوة الاحتمال لأعزيك، وأقرب وجهي المنذهل بضعف اللحظة الابدية وابكي فقط وليس باستطاعتي سوى الانحناء لمشيئة الله يا الحبيبة، والإيمان بقضاء الله وقدره ...! فالشباب حينما يرحلون عن أمهاتهم في أثواب عرس الأرض وعطر الأرض، وحينما يرتعدون أمام ملاك الموت خشية الرحيل لابسين ربطات العنق الجميلة، واضعين اكفهم في اكف حبيباتهم الموعودات لبيت العمر الهانئ السعيد، وأطفال الشمس في ساحاته المورقات! حينئذ لا ندري ونلم كم من الفرح الملكوتي يتلقاهم ..! وكم من الأهازيج تنشر حولهم بنات الحور ...! الملائكة تتلقاهم بالدعاء والاستقبال العظيم لأمهات صابرات على وعد الله سبحانه وقضاء الله في الخلق .. ونحن أضعف من تنويه اللحظة المباغتة يا الحبيبة! ... نعم سأبكي .. وتبكين الى أبد الحياة .. وأعرف أنك مثلي وأنا مثلك في النواح السري الحزين! وسأقول لك هم يرفرفون على رؤوسنا طيورا عابقة بالفرح الأمين ونحن الصابرين! ربما حينما تعودين من صلاة الفجر، يتناغم الصبر والإيمان مع الألم والحزن، فتنشدين البكاء المرير حتى الذهول، وتنهمر أهازيج بنات الحور بعد الصلاة ويرتفع النجيع .. وتقف رحاب مستقبلة طوابير الصبايا والشباب كأنها ام الشهيد الحقيق في أرض الله المكسورة ...! وكأمها تستمع الى الناس يتفرسون في وجهها الميتم بالنور واللهفة، يا ام الشهيد زغردي كل الشباب اولادكي! ولم لا؟ وقد عزل العريس باكرا ورحل في واجب الحياة الا وهو إكمال نصف الدين!! والواجب والعلم والأهل والعزوة! ولم يقصر علي في حبل الوجود بل اطال اللهفة لإطالة الأمانة في عنق الشاب المثقف المجتهد العامل الخلوق المصلي في مسجدنا في عبدون! والمتلهف للصلاة بين الشباب الغر القائمين .. فلا تتوقفي عن الدعاء والبكاء تضرعا لوجه الله تعالى! وحيث لا أتوقف عن الذاكرة والحزن يا رحاب .. يكون لك العضد والسند والولد في الآخر والملكوت يا حبيبة! ولجدته المتفانية في الارض من أجل الانسانية والعطاء المرضي من الله أتوجه لجدته الحبيبة الغالية، صيتا الحديد بالاحتضان، والقبلات على الرأس! وقلمي لما يزل ينزف ذعرا لهول المدى في عرس الشاب ووداعه الأخير! وتجيب في ولع اللحظة الأخيرة وكيف لا يكون علي فعلا حبيب الله .. عريس اللحظة المتوقفة في الدنيا الفانية! ... أبيض الجبين واليدين! والكفان تتربعان على الصدر بهدوء المغادرة الراحلة! ويعود أبو علي الرجباني من طريق المسجد يتوكأ على كتف علي!! يشم رائحة عطره الممزوج بالصمت الأهيب الخجول من ضربات الرحيل المفاجئة! والطريق تترنح تحت فتور خطوات الوالدين الهائمين على الدرب .. يعودان من دعاء الاكتمال والوداع المهيمن على ساحة العرس، والمسيطر على صيوان القهوة السادة والدبكات الشبابية لأعز وأقرب وأبعد الاصدقاء .. وكما العريس المعطر بالفرح الطازج في ليلة عرسه المسربل بالابتسامة الخفية والعرس لم يهدا حتى الفجر، والعريس يمتشق الخشب وينام تاركا سرير البيت الى حيث سرير السرمدية بعد انطلاق رصاصات العرس الغامر بالقبلات والأهازيج الندية! وتلك العصافير ترطن لغتها حول الشاب الجميل الممدد بابتسامة الولهان على آخر زغرودة لرحاب «هي ... هي .. يا احباب طول الزين من الشباب مليح في العرسان .. واقف مع الدبكات تحت نجومنا سهران .. هي .. هي .. يا ريت يمه يا علي .. طولك مع النجمات بين الارض والسما فرحان .. والعين تغمز للشباب بدبكة الخلان .. لما الفرح ييجي على الخالات ونهزهز الفنجان ...» وتستمر الزغاريد ولا تتوقف العصافير عن النقر والتغريد على اللوح المقدود من شجر الرحيل الأخضر، والعريس لا يتوقف عن التلويح للمودعين بين العصافير! حيث أمه رحاب وجدته صيتا تقفان في أول اللابسين ليانس السجود في المسجد القريب من بيت العريس المتورد من أجله! والدعاء له بالرحمة انشاء الله!.
