يبدع الكثيرون من علمائنا ومفكرينا العرب في مجالات اختصاصهم، ولكنهم حين يعبرون عن آرائهم في بعض شؤون الحياة والمجتمع، يقعون في المحظور، فترى منهم رغم علمه الغزير وصيته الواسع يتوجه توجها غير حضاري وهو يبدي وجهة نظره في قضايا عامة، كان حريا به تناولها بشفافية وتواضع! في مذكرات احد هولاء. الاعلام البارزين وهو الاستاذ محمد عبدالله عنان المؤرخ المشهور والصحفي اللامع، وصاحب الدراسات في الأدب الاندلسي التي تدل على سعة اطلاعه، تبرز دعوة خفية لتكريس الطبقية في مجتمعه المصري، مما يتعارض وعلمه وثقافته. ففي مذكراته التي عرض لها ضمن ما عرض من مذكرات. د. محمد الجوادي في كتابه «تكوين العقل العربي» والصادر عن دار الخيال بالقاهرة حديثا، تطالعنا فقرة في مذكرات هذا العالم تستخف كما يبدو من سياقها بجيل الثورة المصرية ـ ثورة يوليو 1952 ـ يقول بالحرف: «... إنه ذلك الجيل الذي فتحت له أبواب التعليم حرة دون قيود ولا تكاليف عملا بمبدأ تكافؤ الفرص والمساواة المطلقة، ذلك الجيل الخليط من مختلف البيئات والطوائف، ومنهم ابناء وبنات الكناس والخفير والغسالة الى جانب ابناء وبنات البيوتات العريقة والطبقات الوسطى ذات الاصول العائلية والتقاليد والأخلاق المحترمة. الكتاب ص 237 إني لأستغرب ـ كما استغرب مؤلف الكتاب نفسه ـ ان ينحو هذا العالم الجليل هذا المنحى غير الحضاري وهو يغمز من قناة ابناء الشرائح الكادحة التي توفر لها التعليم المجاني والتكافؤ في الفرص مع غيرهم من ابناء الذوات والطبقة الوسطى: أهي سبة؟ كنت اتمنى على هذا العالم ان ينفي عن نفسه هذا الحس الطبقي الذي يتعارض وقيمنا الاسلامية والعربية. كنت أتمنى عليه ان يرحب بمجانية التعليم لا أن يعارضها!. أليست الخطوة في هذا الاتجاه دليل تطور إيجابي تثمن لمن قاموا بها؟ لقد عاصر هذا الرجل عهد الثورة وما قبلها، ونراه مشدودا الى الحقبة التي سبقتها حيث التمييز على أشده بين الاثرياء والفقراء، بين ملاك الاراضي وبين الفلاحين، وإني لأعجب من مثقف له هذه المكانة على مستوى بلاده وعلى المستوى العربي ان يفقد كثيرا من سمعته الثقافية حين يترك لمشاعره الطبقية ان تتحكم في مواقفه. لماذا هذا التكريس للطبقية؟ واتساءل من جديد: هل الثقافة معزولة عن القيم الاخلاقية والانسانية؟ اليست هذه القيم رافدا حقيقيا لثقافة اي عالم او مفكر؟ صحيح ان هذا المؤرخ قد أصاب حظا وفيرا من العلم والمعرفة كما اتقن عدة لغات اوروبية، ولكن الصحيح ايضا انه وامثاله من المتعالين على الاناس العاديين قد خسروا الكثير من قيمتهم الثقافية. دعك مما حفلت به هذه المذكرات من تباه بقدرة صاحبها العلمية وجرأته في قول الحق، فالمحك هنا هو السلوك والموقف الاجتماعي وليس مجرد الألفاظ واني موقن ان هناك اليوم في مجتمعاتنا القريبة العديدين من المثقفين والعلماء الذين يفضح سلوكهم ومواقفهم الاجتماعية كل ما يتشدقون به من اطراء للفضائل وحث على التمسك بها. كم يسيء هؤلاء الى مجتمعاتهم، حين يتقمصون شخصيتين: شخصية تظهرهم وعاظا ودعاة للخير، وشخصية اخرى على النقيض، يفضحها السلوك وتعريها الممارسة!. والله من وراء القصد ملاحظة: صدرت مذكرات محمد عبدالله بعنوان «ثلثا قرن من الزمان» عام 1988.